عندما أشعر ببعض الضجيج مالي إلا قراءة ما كتب جبران رغم أنني أقرء الفقرة وأعلم أنني كثيراً ما قراتها
ولكنه هو جبران سيطر على عقولنا وعلمنا أن لما يكتب أوجهاً متعددة
أوقفني مقطع من كتاب الأجنحة المتكسرة .. ( مجموعة قصصية متميزة )
وبينما أكتب هذا الكتاب وجدت النص موجود بالكامل بأحد المواقع لذا سأضع الفقرة كاملة وهي الفقرة الملونة من نص الكآبة الخرساء .. لقد لونتها باللون الأحمر .. لنقرأها معاً .. والسؤال هل كان جبران محقاً بتصويره للكآبة على أنها درباً من دروب التنوير ؟؟
الكآبة الخرساء
انتم ايها الناس تذكرون فجر الشبيبه فرحين باسترجاع رسومه متأسفين على
انقضائه ,اما انا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتقل جدران سجنه وثقل قيوده
.انتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفوله ولشباب عهدا ذهبيا يهزأ
بمتاعب الدهر وهواجسه ويطير مرفرفا فوق رؤوس المشاغل والهموم مثلما تجتاز
النحلة فوق المستنقعات الخبيثة سائرة نحو البساتين المزهرة , اما انا فلا
استطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد الام خفيّة خرساءكانت تقطن قلبي وتثور
كالعواصف في جوانبه وتتكاثر ناميه بنموّه , ولم تجد منفذا تنصرف فيه الى
عالم المعرفة حتى دخل اليه الحبّ وفتح أبوابه وأنار زواياه.فالحبّ قد أعتق
لساني فتكلمت ومزّق أجفاني فبكيت وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت.
انتم ايها الناس تدركون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي
رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم , وانا ايضا أذكر تلك البقعه الجميله من شمال
لبنان , فما أغمضت عينيّ عن هذا المحيط الاّ رأيت تلك الاودية المملوءة
سحرا وهيبة , وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء و ولا صممت
أذنيّ عن ضجّةهذا الاجتماع الا سمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون.
ولكن هذه المحاسن التي تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحادثة مثلما يتعذب
البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح في الخلاء الواسع _
وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير وتنسج بأصابع
الحيرة والالتباس نقابا من اليأس والقنوط حول قلبي _ فلم أذهب الى البرية
الا عدت منها كئيبا جاهلا أسباب الكابة , ولا نظرت مساء الى الغيوم
المتلوّنة بأشعة الشمس تغريدة الشحرور أ, أغنية الغدير الا وقفت حزينا
لجهلي موحيات الزمن.
يقولون ان الغباوة معد الخلو و الخلو مرقد الراحة _ وقد يكون ذلك صحيحا
عند الذين يولدون أمواتا ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب ,
ولكن اذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون
الغباوة أقسى من الهاوية وأمرّ من الموت . والصبي الحساس الذي يشعر كثيرا
ويعرف قليلا هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس لان نفسه تظلّ واقفة بين
قوّتين هائلتين متباينتين : قوّة خفيّة تحّلق به في السحاب وتريه محاسن
الكائنات من وراء ضباب الاحلام , و قوّة ظاهرة تقيّده بلأرض وتغمر بصيرته
بلغار وتتركه ضائعا خائفا في ظلمة حالكة .
للكابة أيد حريرية الملامس قويّة الاعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة
, فالوحدة حليفة الكابة كما انها أليفة كلّ حركة روحيّة ز ونفس الصبي
المنتصبة امام عوامل الوحدة وتأثيرات الكابة شبيهة بالزنبقة البيضاء عند
خروجها من الكمام ترتعش أمام النسيم وتفتح قلبها لأشعة الفجر وتضمّ
أوراقها بمرور أخيلة المساء . فان لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته
ومن الرفاقمن يشاركه في الميول كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في
جوانبه غير أنوال العناكب ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات .
أما تلك الكابة التي اتعبت أيام حداثتّي فلم تكن ناتجة عن حاجتي الى
الملاهي لأنها كانت متوفرة لديّ. ولا عن افتقاري الى الرفاق لأنني كنت
أجدهم أينما ذهبت . بل هي من أعراض علّة طبيعيّة في النفس كانت تحبّب اليّ
الوحدة والانفراد. وتميت في روحي الميول اللى الملاهي و الالعاب , وتخلع
عن كتفي أجنحة الصبا و وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال يعكس
بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان ولكنّه لا يجد
ممرا يسير فيه جدولا مترنّما الى البحر.
هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة و فتلك السنة هي من ماضيّ بمقام
القمّة من الجبل لأنها أوقفتني متأملا تجاه هذا العالم وأرتني سبل البشر
ومروج ميولهم وعقابات متاعبهم وكهوف شرائعمه وتقاليدهم .
في تلك السنة ولدت ثانية , والمرء ان لم تحبل به الكابة ويتمخّض به اليأس
وتضعه المحبة في عهد الاحلام تظّل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر اليّ من وراء أجفان امرأة جميلة ,
وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم_ ومن لا يشاهد
الملائكة والشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظلّ قلبه بعيدا عن
المعرفة ونفسه فارغة من العواطف