إذا اتفقنا على أن الكتابة بعمقها وسيلة إبداعية لحل مشاكل
المجتمع،و طريقة للالتفاف على (اللامسموح او التابو) بغية طرح موقفنا منه،
نفهم لما كان الأدب النسائي – اذا قبلنا هذا النوع من التخصيص جدلا –
مرتبكا امام البوح و التعبير الحر. إن المرأة مصنع من الأحلام ! هي حارثة
مثالية لأوهامها الصامتة ! متفوقة في علم حساب الذات، حتى و لو كانت أميه !
فطريه تتعامل مع الدنيا حولها بإحساس بوصلي راداري تلقائي، لكنها متمكنة
في الوقت نفسه من إحداث الثقوب و التلصص على العالم من خلالها. و من بين
كل هذا كان هدفها الأكبر : حقوقها ! و كانت كلما كسبت المزيد منها، كلما
انعكس ذلك على قدرتها على التعبير عن ذاتها و حالها، و كان هاجسها يتمركز
على كسب المزيد. حتى دخل على الأدب مصطلحات مزيفة مثل (أدب نسائي جريء ) و
( محاولات نسائية بدائية ).
والحق إذا أمعنا التدقيق في هذا الكم الكبير من النصوص النسائية
الأدبية العربية لوجدنا أن اكثر من 99 % من الجرأة في التعبير، تندرج تحت
مواضيع اعتقدت المرأة أن تحررها يجب أن يكون منها أولا: الجنس وعلاقتها
بالرجل. ولم يستطع النقد العربي الباهت او غير المحترف او القليل، ان يوجه
خطوات هذا النوع من الأدب، ولا ان يدير الدفة بحيث يقوم بتعريف الأنوثة
والذكورة أولا، و يحدد الوظائف، وإنما قام بتمجيد الجرأة في تناول
الموضوعات الجنسية متناسيا دور الأنوثة في النضال المجتمعي !
في البحث الذي اعمل عليه حول أنوثة المرأة العربية بين التحقق و
الضمور – و هو أيضا كان موضوع المحاضرة التي ألقيتها في اتحاد الكتاب في
ابو ظبي الشهر الفائت _ أردت أن اعرف معنى الأنوثة التي تحاول المرأة اليوم
التملص منها باعتبارها السبب المباشر و الغير مباشر – برأيها – لتاريخها
الطويل من القمع و الاستلاب. انها تعتقد ان مجرد كونها امرأة كان سببا
لقمعها متناسية ان الانوثة- بالمعنى العميق للكلمة - ليست سوى هذه الطاقة
الداخلية المتحركة من الداخل الى الخارج و ليس العكس. انها جزء من البنية
التحتية للمجتمع باعتبارها العنصر الذي تبنى عليه السلامة النفسية للأسرة –
خلية المجتمع الوحيدة.
مع الأسف لم يستطع أدب المرأة ان ينطلق من هذه النقطة و يبحث عن
تكامل العلاقة بينها و بين الرجل، و إنما اخذ يعالج الموضوع من ابهت و
اسخف جوانبه، وكأنه تقرير مكرر لسجال تناحري بين الطرفين، فهو اما يشتم و
يظهر كل تهجم على الرجل، و اما ينتقد بشكل تذمري بعيد عن طرح أي حل.
والحق، ولم استطع ان أميز سوى القليل من المفكرات العربيات الرائدات
ممن استطعن ان يضعن أيديهن على نبض الحقيقة مثل فاطمة المرنيسي ونوال
السعداوي اللتين تناولتا الموضوع بشكله التاريخي الأكاديمي ولم يظهرا أي
انحياز او نقد الا بعد ربطه بالشواهد و المصادر. لقد تحدثتا عن الحرملك
العربي المعاصر الذي يقبع بين جدران الرأس، وعن فيروس الحريم الذي يصيب حتى
اكثر رجالنا ثقافة و وعيا بينما لم يستطع الأدب ( شعر، قصة، مسرح ) ان
يستغرق فيصل إلى هذه الأعماق او المستويات من الطرق، وبقي اما شاتما او
مادحا من دون تبيان الكثير من المبررات المنطقية، او حتى طارحا لحلول يمكن
ان يعول عليها.
غريب ان تنتشر مصطلحات مثل ( أدب نسائي جريء ) فقط للتدليل على
نوعية المواضيع المطروحة و الإباحية في التناول. صحيح ان المرأة – الكاتبة
يجب ان تقتحم مستويات لم تقتحمها من قبل، و لكن فقط لتعريف الآخر بأعماقها
و وجدانها و دور أنوثتها النضالي – الأنوثة بالمعنى العميق و المضموني
للكلمة -، ما عدا ذلك لا قيمة معنوية او أدبية له برأي.
لم يستطع أدب المرأة العربي الحديث – أُذكر انه لم يكن هناك أدب
قديم إلا بعض القصائد القديمة القليلة هنا و هناك – ان يرقى لمستوى الأدب
الإنساني و يندمج بموقف الأدب عموما من القضايا الكبرى، فنادرا ما نقرا
رواية نسائية تتمتع بهذه الخلفية الاقتصادية – السياسية – التاريخية
العميقة للواقع، او لحقبة ما، و كأن أدب المرأة لا يجب ان يعبر إلا عن هموم
علاقتها بالرجل واستجداء حقوقها منه او المعاناة من قهره. و نادرا، ما نجد
نصوصا نسائية أدبية تحمل فكرا فذا تقدميا يطرح حلولاً بديلة.. وكأن هذا
النوع من الكتابة متروك للدراسات و التحليلات.
أنا أرى أن الأدب الذي تكتبه المرأة، مهما كان جريئا، إن لم يأخذ
دوره في التغيير المجتمعي و التركيبة الوجدانية الأخلاقية للمجتمع فانه
يكون أي شيء إلا أدب. و هذا الهذر الرومانسي الناعم ، او هذه العصبية
اللغوية المستفزة التي تمتلئ بها الكتب ليس إلا دليلا آخر على فشل الأدب
النسوي العربي. بالتأكيد هناك الكثير من الأعمال النسائية العربية الممتازة
والنصوص التي تعتبر ثروة حقيقة أدبية و لكنها بالتأكيد قليلة، فأدب السيرة
الذاتية إن لم يرفق ( بتصور حل) فانه غير مجدي وسيكون ( كتاب آخر ) على رف
المكتبة العربية.
إن القمع الطويل الأمد الذي تعرضت له المرأة عبر تاريخها لا يبرر
تجاهلها لقطب الذكورة و ضرورة التكامل معه. فالنضال لا يكون ضده و إنما معه
و من خلاله ؛ بمعنى توحيد ( الجبهات ) أمام تحديات الاقتصاد والمجتمع
والخلفية الثقافية
ان المفكرة و الباحثة العربية فاطمة المرنيسي في كتابها ( أحلام
النساء الحريم ) مثلا، لم تعرض فقط هواجس النسوة المختبئات في الاحاريم
المثلية، و إنما تذهب الى ابعد من هذا عندما تبحث عن اصل الكلمة. ولأنها
تعتقد أن البداية كانت لعبة من العاب السلطة حيث النفوذ لمن يملك اكبر عدد
من النساء، فإنها تكشف سخافة و ضحالة كل تبريرات هذا النوع من النفوذ. فضبط
الحريم في مكان واحد خوفا على الرجال من اللهو و عدم الالتفات الى ما هو
أجدى مجتمعيا : العمل بغية كسب القوت، قد دحضه الغزو الفرنسي بكل تؤدة و
هدوء. فنساؤهن يخرجن على هواهن بل و يعملن، بينما وجد الرجال الوقت مع ذلك
لتأليف جيش جرار و غزو المغرب !!!!! و هي حين تشرح التاريخ القمعي العربي و
تظهر ماله و ما عليه فإنها في الوقت نفسه تقدم الحل : و هذا هو تعريف الأدب
بأعمق معانية، و هذا هو دور الأدب بأجمل صوره. ان المرأة لا يجب أن تلجأ
إلى القلم من اجل ان تسرد ما يحصل،فهذا امر لا يغني و لا يسمن. فالنضال
الأدبي- القلمي يجب أن يربط قضايا المرأة و الرجل بحركة الصيرورة
التاريخية وتفاعل الإنسان مع حقائق الواقع المعاش و تبدلها في الزمان و
المكان و إلا فلا معنى لهذا النضال و لا دور يحسب له.
ولهذا،فأنا لا أرى ان الأدب النسائي الذي يكتب حاليا يمكن ان يسحب
البساط من تحت أقدام الأدب الذي يكتبه الرجل العربي، و لا حتى العكس.. انني،
ككاتبة، أتطلع إلى الأمر من منظور آخر.. يهمني جدوى الطرح قبل جماليته،
رسالته قبل فنيته او صناعته، قفزته كفكر قبل تدفقه. كل كتاب جيد، بمعنى
قدرته على الحوار مع المتلقي عالية، أكان كاتبه رجل او امرأة، هو أدب
إنساني و هكذا انطلق في التصنيف.
لا زلنا، كوعي، نحبو على أربع. و الحريم المعاصر اليوم يتبدى من
خلال قواعد مختلفة ظاهريا. انه أيضا من صنع الرجال و تضبطه ليس الجدران
السميكة ولا الباحات الداخلية، و انما قوانين السوق و العمل التي تجعل
المرأة تفقد شخصيتها و هكذا فإنها عادت من جديد حبيسة عالم الذكر. انه الفخ
المعاصر الذي يجمل العمى و يخلق التماهي بين الجنسين تحت اسم تطور. و اذا
راقبنا عن كثب نتائج الحريم المعاصر و القديم، نجد انها متطابقة بشكل مذهل
: امرأة مشوهة الأنوثة وجدانيا، مثلية غير سوية و رحم وجداني ضامر، و
طغيان لعالم الذكر بكل قوانينه. و الى ان تعي نساؤنا هذه الازدواجية، بل
هذا الفخ، و يبحثن عن الحل في داخلهن و وجدانهن، و يعبرن عن كل هذا من
خلال موقف فكري – عملي متجل في أدبهن، فان الطريق يبدو طويلا جدا ً، مهما
حاولن ان يكتبن ( أدبا جريئا ) بمعايير اليوم.