الرحلة الأخيرة ..... والأولى! جلست خلف المقود.... وأدارت مفتاح الراديو تبحث عن لحن ما.....
كانت عيناها تسابقان السيارة في شق الشوارع العريضة.... وتتفوقان عليها بالقدرة على اعتلاء الأبنية وتسلق الأشجار .... وحتى أعمدة الإنارة على الجانبين.....
لم تكن تدري ماهو سر الحزن العميق الذي كان في تلك اللحظات يستعمرها؟! أهو الشتاء الذي صمم على توحيد الأبنية بلون الرماد والعتمة .... وأقسم ألا يأتي إلا بعد تعرية الأشجار إلا من أغصانها التي رضخت لجبروته فتوحدت ألوانها بالأبنية من حولها؟!
أم هو البرد الذي جهّم الوجوه ونفخ فيها العبوس والوجوم فلم تفلح ـ رغم استيرادها ضحكات الأعياد النضرة ـ في الانتصار عليه وقد تبدى في معاطف سوداء ونظرات أكثر سواداً؟!
أم هو ذلك اللحن الذي وجدته ... دخل أذنيها وأقنعهما بإعطائه فرصة حتى ينتهي قبل أن تحكما عليه بتغيير القناة؟!
أم أن عينيها عكستا مايعتمل في قلبها من حزن لونتا به المدينة المسكينة من حولها ؟!
قررت ـ في محاولة منها للإجابة ـ أنها كلها مجتمعة مذنبة بالدرجة نفسها... متآمرة مع بعضها!!
أحست فجأة بتلك اليد تقبض على يدها بذات القوة.... القوة التي قالت الكثير وأعطت الكثير من الوصايا دون أن تنطق بكلمة:
ـ ضميه لي وعانقيه بكل قوة لديك .... حتى يحس بذراعيّ كأنهما قتلتا المسافات ووصلتا إليه.
ـ قولي له إننا ننتظره.... لا يظن أننا نسيناه.... هو معنا في يومنا.... قولي له!!
ـ لا تطيلي الغياب لا تجعلينا نشتاق إلى رؤيته فيك.... على الأقل عندما تأتين نسمع صوته في صوتك.... كلماته في كلماتك... روحه في روحك... فلا تطيلي الغياب!.
ـ لا تبك! فعيناك رسولان أمينان ينقلان أشواقه ونظراته..... لا تبك حتى لا تشوش الصورة أمامه فهو ينظر بهما...لا تبك!
كانت تعرف أنه يرى بعينيها لذا قررت أن تذهب إلى كل مكان يتمنى زيارته أو رؤيته ما أمكنها ذلك... قررت أن تشبعه نظرا لكل من يحب ولكل ما يحب.... وحين حان وقت الرحيل قررت أن تجلس للمرة الأخيرة في مكان أكيدة هي أنه يتمنى الجلوس فيه وأن تنظر من كل زاوية يريد بالتأكيد أن ينظر منها!!
وحتى لا تعكر الأصوات الجاهلة لحظة الانفراد هذه التي أحبت أن تهديه إياها حشت قطعتان في أذنيها عزفتا لحنا ينطق بلسانه!!
الباب الكبير والمدخل ... جهة لا يعرفها... تنظر إليها بإمعان وتتسلق عيناها الجدار الفاصل... الجدار المنقذ .... الأمين ... الذي خبَّأه من الأوغاد عندما جاؤوا كالكلاب المسعورة لاهثين وراءه مستترين بالعتمة ... بما اعتادوا أن يستتروا به ... بالظلام!!
نزلت نظراتها من الجدار إلى الحديقة...
ـ انتظري قليلا.....( سمعت همسته) ....عودي قليلا ... أشتاق هذه الشجرة فمنذ وعيت أعرفها كماهي الآن!
ـ هي كبيرة إذا؟!
ـ بل هي أصيلة!!
من شجرة إلى شجرة..... ومن ذرة تراب إلى ذرة تراب..... ومن نسمة إلى نسمة....من الخلف ... من الأمام! ... كانت تسمعه يروي في كل موقع ذكرى...هنا كان يستلقي... هناك كان يقف..... هنا كان يسير ... هناك كان يجلس.... ومن هنا كان يتسلل ليتمكن من ممارسة ما كان يسكنه هاجسا قويا وما لخصه أبوه يوما بكلمة واحدة:
ـ لعبة حقيرة...... لعب بالنار!!
صوت الأذان أيقظها ....نبهها إلى اقتراب الموعد:
ـ لقد حان الوقت!
ـ نعم ! لقد حان الوقت!
ـ هل انتهيت؟!
ـ أتمزحين؟!
ـ سامحني... ولكني مضطرة للذهاب الآن ... فهم بانتظاري ... وأنت لا تريد أن تتركهم ينتظرون أكثر مما فعلوا؟!
ـ هل مازالوا ينتظرون؟!.... حقا؟!... بعد كل ماحدث؟!
ـ طبعا! أوتشكّ في ذلك؟! .... إنهم فخورون ... ونادمون!!
كانوا كلهم هناك .... وكان جالسا بينهم ... يسمع تسليماتهم... يحس بحرارة قبلاتهم... يأخذ هداياهم!!
ـ قولي له.... أخبريه.... سلمي عليه....لا تنسي!
ـ (تبتسم) ... وكيف لي أن أنسى؟!
أقلعت الطائرة من قلب متعطش إلى قلب ملتاع ..... لم تفلح محاولاتها في التوقف عن البكاء طوال الرحلة.... كانت تدري ولا تدري لم كل هذا البكاء؟!.... النظرات من حولها طرحت الكثير من الأسئلة المستغربة .... وكانت شاكرة من كل أعماقها لالتزام تلك النظرات الصمت المهذب!! مناديلها المبتلة لم تنجح في إقناع عينيها بأخذ استراحة قصيرة...الصور كانت تمر أمامها بأدق تفاصيلها!.... الوجوه! ... الأهل ... الأصدقاء ... الجيران ... الأقارب!.... الأشجار! ... الطرقات! ... الجدران!.. كلٌّ ترك وصيته وكلٌّ حمّلها أمانته إليه! لأول مرة ترى الحب يرسم الكلمات والأماني ويجمع الأضداد ويوحد الأسئلة؟!
محملة بالكثير خرجت من بوابة الوصول.... ارتمت بين ذراعيه وهي تحس بالبركان الذي يحرقه:
ـ ( بضمة دافئة) حمدا لله على السلامة... اشتقت إليك!
ـ ( ممازحة) اشتقت لي أنا؟!
ـ ( مبتسما) وهل هناك سواك؟!
ـ طبعا! ضرتي أعرفها... وأنا مباركة وراضية!
ـ هي ليست ضرتك!... بل أنت ضرتها؟!
ـ ألن تسألني عنها؟!
ـ ( يبتسم).
ـ حقا! لقد تخيلتك ستمطرني بالأسئلة فور رؤيتي؟!
ـ ( ينظر إليها).
ـ أتريد أن تقنعني أنك لست متلهفا؟!
ـ أتريدين أن تقنعيني بأنك نسيت؟!
ـ (بجهل متصنَّع) ماذا؟!
ـ لقد كنتُ طوال الوقت هناك!! وما فاتني رأيته في عينيك المحمرَّتين؟!
ـ آسفة... ( تنظر إليه بتمعن) إنهم فعلا مفلسون!!
ـ ( نظرة متسائلة).
ـ هم قادرون على فصل أجسادنا! ... تعذيبها!... نفيها في أقاصي الأرض! ... ولكنهم أضعف من أن يصلوا إلى أرواحنا ليخرجوها أو يفصلوها عن الحبيب الأكبر؟!! إنهم حقا فاشلون!!