لقد تجاوزت الأربعين من العمر..
عشرون منه إلا قليل مضت في غربة أضاعت أصلي وفصلي وشجرة العائلة.
أمي رفضت أن تقبلني وولدي رفض طاعتي واكتشفت أن ذكرياتي قد أحرقتها غربتي.
حجزت مكان لنفسي بين المسافرين على رحلة موسكو دمشق وقد مضى عشر سنوات على زيارتي الأخيرة، حملت في حقيبتي شوق وأحلام أردت أن أحققها.
حضن أمي .
وقارُ والدي.
طاعة ولدي الذي تركته يحبوا خطواته الأولى.
حنان أختي وحب أولادها الذين يذكروني والذين يعرفوني من خلال الصور ويحلفون بحبي من خلال الهاتف.
كانت الرحلة طويلة ومملة، ثرثر من حولي بكلمات لم أكترث لها ولم أفهم معانيها.
كانت الرحلة بطول اشتياقي وحنيني، بعد صبر قاتل تم اللقاء الذي طالما انتظرت.
استقبلني والدي الغالي برفقته كان ولدي الذي لم يربى في كنفي، أختي وزوجها الذي هو أخ أو أكثر، فأنا وحيد ولم تلد أمي لي أخاً.
كان لقاء يصعب وصفه فقد كان بصحبتهم أخي الذي لم تلده أمي، هذا الصديق الذي وعلى مدى غربتي بقي محباً مخلصاً!!..
هل هذا ممكن أن يحدث في زمان السرعة والخيانة والنذالة بأن يبقى لك صديق مخلصاً؟؟.
نعم لقد حصل ومن بين عشرات الأصدقاء بقي من حفظ الحب والود والحمد لله وإلا لكان قلبي قدم استقالته وتوقف عن العمل.
قاد صديقي سيارته متجها نحو بلدتنا، وأنا أتأمل من النافذة وأتحسر، بعد فترة من الزمن سألني والدي هل تعرف هذا المكان؟؟.
قلت نعم بعد حوالي الخمسمائة متر سنصل حارتنا، لم يكن من والدي إلا أن أنفجر باكياً !!.
سألته بالله أن يهدأ ويسامحني فلم أعرف مدخل حارتنا!!، هكذا قال صديقي فانهمرت دموعي وكدت أذوب خجلاً وألماً.
كان شعور لا يكتب بكلمات عندما دخلنا حارتنا وتهافت علينا رفاق الصبا يهنئن بالسلامة.
ولسان حالهم يلعنني ويلعن غيبتي.
أعتقد أن ما من واحد منهم فكر ولو للحظة عن ظروفي وأسباب غيابي.
كان فضول بعضهم حول ثروة قد أكون جنيتها.
دخلنا المبنى وبدأت فوضى حقيقية، تراكض أطفال أختي مهللين مقبلين وبأيديهم بالونات ملونة بدئوا بفرقعتها معبرين عن فرحتهم لقدومي بعد طول انتظار.
دخلنا المنزل والنشوة تملأ قلبي وسألتُ أين أمي؟؟.
تراكض الأطفال يصرخون جدتي، جدتي، خالي وصل وهنا كانت الفاجعة لقد نستني أمي ورفضت خلع الحجاب، رفضت أن تعانقني وهي تقول أخرجوا هذا الرجل من بيتي فهو غريب وليس أبني.
أنفجر كل من في البيت من قريب وغريب بالبكاء أما أمي الغالية فقد ضحكت من كل من بكى وتساءلت عن سبب بكاء الجميع.
شعرت بشيء أعجز عن وصفه، صعقتني كلمات أمي وأحسست أني أصبحت كهلاً في ثوان معدودة.
انتابني خوف من شيء غامض، تسارعت دقات قلبي وتصبب عرق مالح الطعم فأختلط بدموع مرة.
لا أيها الشباب اللاهث وراء الغربة على مبدأ المثل الروسي القائل الراحة هناك حيث لا نقيم نحن!!.
إن الراحة هنا بين الأهل وفي أحضان أمهاتنا.
يا سادتي لم تجنُ أمي كما حسبتم، أمي من مثقفين الستينيات وسياسية السبعينيات وقد خرجت أجيال من مدرسة أبي الخاصة التي درست بها.
أمي لم تحتمل غربتي الغبية، فدخلت غرفتي وأحرقت كل الخواطر التي كتبتها أنا، لقد مزقت رسائلي التي كنت قد أرسلتها أنا لحبيبتي الأولى، وقررت بعدها أن لا تقاوم العمر والمرض والبكاء كل يوم، فقدت الذاكرة لتستريح.
سامحيني أمي الحبيبة.
إن كلماتي فارغة من مضمونها لو أنا أردت الاعتذار.
هكذا كان وهكذا سيكون مع كل من سيحسب أن في السفر فرح وفي الغربة ستتحقق الآمال.
أمي فقدت الذاكرة واستراحت و أنا فقدت كل شيء لأني لن أسامح نفسي أبداً.
أصبحت بلا أم.
أصبحت بلا ولد.
أصبحت بلا ذاكرة ولا تاريخ.
أحرقت أمي كلماتي الأولى التي تركتها في غرفتي على أمل اللقاء القريب.
طفلي الذي أنجبته زوجتي الأجنبية حرم من شجرة العائلة الممتدة لقرون طويلة.
هو في وطني الأم بلا تاريخ ولا أصول.
هو في وطني حتى ينادوه بابن الأجنبية.
لا يتكلم لغة أخيه العربية.
ولدي الأول اعتبرني خائن له ولم يغفر لي غربتي وفي هذا حق.
فلم أملك الحق بضمه ولا حتى النظر في عينيه الجميلة.
صدق من قال الغربة كربة.
صدق من قال الغربة تضُيع الأصول.
هل من راغب بعد كل ما سبق بالسفر؟؟.
آه دمشق متى سيأتي موعد العودة؟؟.[/b]