تتمة موضوع :
تفسير الأحلام في الحضارات القديمة .. 1للكاتب : موسى ديب خوري
==========================================================
الحلم في المفهوم القديم
تُشتق الكلمة الفرعونية التي تشير إلى الحلم من فعل اليقظة أو الاستيقاظ. ويعكس ذلك المفهوم المصري للحلم حيث يدخل الحالم إلى عالم مختلف عن الواقع اليومي ويصبح المستقبل مكشوفًا لديه. وكانت هذه النظرة للحلم سائدة في معظم الحضارات القديمة، إنما مع تفسيرات مختلفة أحيانًا لآلية الحلم أو الاتصال بالعالم الآخر أو حتى لوظيفة الحلم. ففي الموروث السومري-الأكادي الحلم خلق ليلي يتصل اتصالاً وثيقًا بالنوم والموت. وتقع تجربة الحلم مثل أية تجربة ليلية تحت تأثير الشيطان. ويسمح لنا وجود الإلهين ما-مو وزيكيكو ابني الشمس وإله الحلم آن -زا-كا في قائمة الشياطين الليلية بافتراض أن الحلم يولد من الأرض الكبرى، أي الجحيم عند البابليين. لكن مفهوم الجحيم هنا كما هو واضح هو عالم اللاتمايز. إن الحلم هو نفس الحي، ويتألف من مادة هوائية. ويقارن هذا النفس الغريب في ملحمة جلجامش بظل إنكيدو البطل الصاعد من الجحيم.
إن النظرية الأساسية في تفسير الأحلام في الصين تقوم على المبدأ الطاوي أن الذات الإنسانية تتألف من عنصرين هما الـ "هوين Houen" و"البو P’ô". والبو هو النفس المتعلقة بالجسد والتي تتحلل بتحلله. أما الهوين فيحل في الجسد عند الولادة، إنه النَّفْس – النَّفَس الذكي. وفي حين ظل البو مرتبطًا بالجسد، فإن الهوين يستطيع مغادرته في ظروف معينة، ومنها حالة الأحلام خلال النوم، فيصادف أنفاس أشخاص آخرين بل وأنفاس سحرة وسرانيين وموتى وقوى فوق طبيعية. ويستطيع الهوين تحقيق رحلات بعيدة في الأحلام الارتحالية إلى بلاد سرانية وذلك خلال ثوان قليلة. وعبر هذا المنظور يمكن أن نستنتج تفسيرًا طاويًا للحلم التنبؤي وإن كانت النظرية لاتذكره بشكل واضح.
ونلحظ تراتبية واضحة في مصادر الأحلام الصينية، وبخاصة خلال الفترة التالية لعصر التشو. فالحلم وسيلة للتوصل مع العوالم فوق الطبيعية، وأولها عالم الرب الأعلى في السماء، ثم عالم الآلهة فعالم الأسلاف ثم الأشباح ثم الأحياء. ويمكن أن نجد في هذه التراتبية انعكاسًا لتحقيق نفسي وروحي متدرج. فالمصدر الأعمق للأحلام هو الألوهة العليا، ثم تأتي الآلهة، وهي تزمر هنا للدوافع العميقة في النفس البشرية. ويمكن أن ينطبق ذلك على مجامع الآلهة في مصر وبابل والهند أيضًا. وتمثل الآلهة هنا النماذج البدئية الأساسية. أما عالم الأسلاف فيرمز إلى ما يستقر في اللاوعي الإنساني من تاريخ التطور الثقافي. أما الأشباح فهم إشارة على الأرجح إلى الأوهام والقوى الانفعالية غير المنضبطة في نفسانية الإنسان. وأخيرًا يصبح الحلم فائق التعقيد مع عالم الأحياء الذين يمثلون فيه غالبًا دور الحالة الراهنة لصيرورة التفتح النفسي.
أما في الهند، فإن الأحلام تكشف للرائي جوانب من المطلق، قبل أن يصل إلى مرحلة التواحد معه. وتقول نظرية المراتب الأربع إن النفس البشرية تتألف من ثلاث سويات طبيعية ومن رابعة فوق طبيعية. وتكون السويات الأولى غير مستقرة، بدءًا بحالة اليقظة، ثم بحالة الحلم حيث تستطيع النفس البشرية التحرك واستكشاف مجاهل لاتستطيع بلوغها في حالة اليقظة، وانتهاء بحالة الحلم العميق الذي يُعدّ الخطوة الأولى في توحيد الكائن مع المطلق. ويصف أوبانيشاد براشنا Pracna هذه المرحلة بأن
الضياء فوق الطبيعي يغمر الكائن فلا يرى بعدها الأحلام وتسري الغبطة كلها في جسده،
ويضيف أوبانيشاد كانشيتاكي:
عندما لايحلم النائم بأي حلم، فإنه يتواحد مع النَّفّس؛ ففيه تدخل الكلمة مع الأسماء كلها، وفيه يدخل البصر مع الأشكال كلها، وفيه يدخل السمع مع الأصوات كلها.
فالحلم في الفلسفة الهندية هو حلم حقيقي للذات الإلهية، ولهذا فهو يعكس ما وصل إليه المريد من شفافية داخلية. وعندما يتجاوز المريد مرحلة الحلم، والنوم بلا أحلام، فإنه يصل إلى السوية الرابعة، وهي رتبة التواحد ببراهمن. ويصف أوبانيشاد مايتريي غيبة المتأمل في موضوع تأمله:
إن الذي تنتفي حواسه، كما في النوم العميق، وينتفي فكره تمامًا، ويركز في أعماق شعوره، يتأمل ذاك الذي يُدعى أوم، الذي لاينام ولايهرم ولايموت ولايتألم. وعندها يصبح هو أيضًا الذي نسميه أوم، المرشد إلى النورانية....
ونجد في الشامانية، لدى شعوب سهوب سيبيريا وتركيا ومنغوليا وتونغوسيا وغيرها، تمييزًا واضحًا بين الحلم-الرؤيا والحلم-التحقيق. وحلم التحقيق قريب جدًا من التواحد الهندي بالمطلق وإن كنا لانملك الوثائق الكافية لتأكيد ذلك. في حين أن حلم الرؤيا هو حلم تنبؤي ويتم فيه تلقي رسائل من الآلهة.
أما الحثيون فلم يهتموا بالحلم التنبؤي. فالآلهة لاتحاول أبدًا الكشف عن أسرار المستقبل للبشر، والمؤمنون بالمقابل لايحاولون إزاحة النقاب عنها، ومع ذلك فإن أهمية الحلم لديهم تكمن في أن هدف الرسائل الحلمية من الآلهة هو إعادة المؤمن إلى الصراط المستقيم! ويشير ذلك بالتالي إلى الهدف الروحي الذي حمله الحثيون للحلم.
نشير أخيرًا إلى الحالات الثلاث للحلم الفارسي. ففي الحالة الأولى لاتستطيع النفس التحكم بنشاطها الخاص خلال النوم، ولايمكن للحواس الخمس الإحساس بالصور الماثلة في المخيلة، وتخضع للأحاسيس الداخلية كالعواطف. وفي الحالة الثانية يحدث أحيانًا أن تتعرض النفس لتغيرات خلال النوم، فيري الحالم أشياء تتصل بحالته النفسية، فإذا كانت روحه حارة يرى نارًا، وإذا كانت باردة يرى ثلجًا إلخ. أما في المرحلة الثالثة، فتتجرد النفس من الأحاسيس وتلتفت إلى النظام الشعوري بالأشياء الروحية، فيكشف لها ما يحدث في عالم الواقع. وكما نلاحظ، فإن هذه السويات تقود أيضًا إلى تجربة عميقة عبر الأحلام الحقة في المرحلة الأخيرة.