Dreams way
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

Dreams way

منتدى طريق الأحلام ..ملتقى الكلمة الطيبة والحلم الراقي .. أهلاً بكم
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خلف الأقنعة..

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
بسام البني
فريق الأحلام
فريق الأحلام
بسام البني


مكان الإقامة : : موسكو
عدد المشاركات : 298
العمر : 57
تاريخ التسجيل : 10/05/2009

خلف الأقنعة.. Empty
مُساهمةموضوع: خلف الأقنعة..   خلف الأقنعة.. Empty31.05.09 18:52

شَيءٌ وَاحِدٌ كانَ يَتمَنَّاهُ، سَعى إِليهِ بِكُلِّ الوَسَائِلِ وفِي كُلِّ الأماكِنِ..

قادَ سَيَّارَتهُ بِسُرعَةٍ جُنونِيَّةٍ يَعبُرُ الطُّرُقَ والجُسورَ، كانَ يرغَبُ بِشِدَّةٍ أنْ يَسقطَ فِي الهَاوِيَةِ ولكِنَّ القدَرَ كانَ إِلى جَانِبهِ، فقَدَ سَيَّارَتهُ المُهَشَّمَةَ ولم يكنْ لديهِ أدنَى ندَمٍ عَليها، لقدْ كَرِهَ الحَياةَ..

اختِراعَهُ الذي عَمِلَ لأجلِه ِحتَّى ضَعُفَ البَصَرُ وهَزُلتِ الصِّحَّةُ فِدَاءً لِتقدُّمِ البَشَرِيَّةِ ، لمْ يَتبنَّاهُ أحَدْ..

التجَأ لِلخَمرِ بَعدَ وَفاةِ زَوجَتِهِ، مَشِيئَةُ القدَرِ أرَادَتْ لهُ أنْ يَبقَى وَحِيدَاً يَسعَى للمَوتِ ولا يَجِدُهُ، لقدْ جَرَّبَ كُلَّ شَيءٍ ، حَتَّى أنَّهُ كانَ يتحَرَّشُ بأشقِياءِ الحَيِّ وينعَتُهُمْ بأقذرِ الكلِماتْ، ضَرَبُوهُ بأيدِيهِمْ وأرجُلِهِمْ ولكِنَّهُ لمْ يَمُتْ، وفي مَرَّةٍ مِنَ المَرَّاتِ طَعَنَهُ أحدُهُمْ بِسِكِّينٍ ، وتعَافى أيضاً..
باختِصَارٍ شدِيدْ، تعَرَّضَ لكُلِّ أنواعِ المُسَبِّبَاتِ لمَوتٍ أكِيدٍ ولكِنَّ القدَرَ كانَ دائِماً يُنقِذهُ ..
شَيئَينِ لمْ يَجرُؤْ عَليهِمَا وهُمَا القفزُ أمامَ قِطارٍ مُسرِعٍ أوْ مِنْ عَلى سَطحِ بِناءٍ شَاهِقٍ ..
يأسٌ شَدِيدْ، حُزنٌ لا يُوصَفُ، وهِندامٌ مُمَزَّقٌ قذِرٌ، باتَ شَبيهاً بالمُشَرَّدِينْ ورَائِحَةُ خَمرٍ وعَفَنٍ وإِنتانٍ تُعَكِّرُ صَفوَ أيِّ مَكانٍ يَدخُله ..

النَّاسُ تشْمَئِزُّ مِنهُ وتتحَاشَاهُ، فقدْ كانَ يَبدُو كمَنْ يَحمِلُ أمرَاضَ الدُّنيَا كُلِّهَا فِي جَسَدِهِ وفو مَلابِسِهِ الرَّثَّة ..

قرَّرَ الذَّهَابَ للرِّيفِ والاعتكافَ فِي القريَةِ التي وُلدَ فِيهَا، فقدْ كَلَّ أملاً بأنَّ المَوتَ سَيأتِي قرِيبَاً أوْ أنَّ اختِراعَهُ سَيرى النُّورَ..

في قِطارٍ قدِيمٍ جَلسَ على أبعَدِ مِقعَدٍ مُمكِنٍ عَنِ النَّاسِ فقدْ كَرِهَ البَشرُ وَوَحشِيَّةَ البَشَرِ، كانَ يُرِيدُ الوَحدةَ، فقدْ باتَ حاقِداً عَلى كُلِّ مَا حَولهُ..

كانَ يذكُرُ جَيِّدَاً مُديرَهُ في العَمَلِ عِندمَا كانَ فِي رَبِيعِ العُمرِ وفِي أواسِطِهِ وكَيفَ كانَ ذلك المُديرُ يُرسِلهُ إلى قِمَّةِ الجَّبَلِ ليَتأكَّدَ مِنْ شُرُوقِ الشَّمسِ، كانَ يَذكُرُ قَولهُ لِمُدِيرِهِ أنَّ الشَّمسَ قدْ أشرَقتْ ومِنَ الغَباءِ الذَّهابُ إلى قِمَّةِ الجَّبَلِ، كانَ يقُولُ لِمُدِيرِهِ أنَّ الضَّوءَ لا ينبَعِثُ إلاَّ عِندمَا تُشرِقُ الشَّمسُ، وأنَّهُ مِنْ غيرِ الضَّرُورِيِّ رُؤيَةُ شَيءٍ مَا، أو أمْرٍ أو كَيانٍ مَا، حَتَّى نُصَادِقَ عَلى وُجُودِهِ، كانَ يُحَاوِلُ إثباتَ أنَّ الصُّعُودَ لِقِمَّةِ الجَّبَلِ سَيَسْتغرِقُ وَقتاً وجُهدَاً ثمينينِ نحتاجُ لهُمَا فِي مَكانٍ آخرَ، لكِنَّ المُديرَ كانَ يُصِرُّ على إرسَالِه.

ما يَحُزُّ في نفسِه حتَّى اليَوم أنَّهُ لمْ يكُنْ يملِكُ حقَّ النِّقاشِ ولا حَقَّ الدِّفاعِ عن حقيقةٍ يرَاهَا واضِحةً فكانَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَصعَدُ فيها لقِمَّةِ الجَّبَلِ ويتعَثَّرُ لِيقعَ على أشوَاكٍ تغرِسُ فِي جَسَدِهِ وكَدَماتٍ تترُكُ آثارَهَا على رُكبتيهِ، كانَ يُهَدِّئُ مِن عَصَبِيَّتِهِ وأحزَانِهِ بتفكِيرِهِ بأمرٍ وَحيدٍ وهُوَ أنَّ اللهَ كرِيمٌ ولابُدَّ سَيَأتِي اليَومُ الذي سَيُثبِتُ فيهِ أنَّ الحَقِيقةَ التي يَقُولُهَا صَحِيحَةٌ وأنَّ دَلائِلَ الأمُورِ هيَ بَراهِينُ عَلى وُجُودِهَا ..

عَرَبَةُ القِطارِ تمتلئُ بالنَّاسِ وأحَدُهُمْ عَريضَ الكتِفَينِ، غليظَ السَّاعِدِ، بَشِعَ الوَجهِ ، كان يُتَمتِمُ: كيفَ يَسمَحُونَ لهذا الحَيوَانِ بالرُّكُوبِ مَعنا؟؟.

سَمِعَ الكلامَ فضحِكَ ضِحكةً عَالِيةً صَفراءَ، كانَ يتمنَّى أنْ يَقتُلهُ ذلكَ الفظُّ ليَرتاحَ..
بالقُربِ مِنهُ على بُعدِ مِترينِ وفي ذاتِ العَرَبَةِ جَلسَتْ امرأةٌ بمُتَوَسِّطِ العُمرِ، وَجهُهَا جميلٌ كَرغِيفِ خُبزٍ سَاخِنٍ وقَوامُها أخذَ مِن الحَرِ التفافهُ ومنَ الشَّمعِ العَاجِيِّ لونَهُ، كانتْ بِرفقتِهَا أبنتها، فتاةٌ في بدَايةِ العَقدِ الثانِي منَ العُمرِ، جَمالُهَا أروعُ منْ جَمالِ أمِّهَا ويبدُو عَليها الهَلعُ، تتمسَّكُ بأمِّها مُحاوِلةً الاختفاءَ خلفَ ظَهرِهَا لِتنظُرَ خِلسةً إلى ذلِكَ المُشَرَّدِ ..

عِندمَا ضحِكَ تلكَ الضِّحكةِ الصَّفراءِ دَبَّ الرُّعبُ بقلبِ تلكَ الصَّغِيرَةِ وقد لاحظَ ذلكَ الرَّجُلُ المُشَرَّدُ، الفتاةُ تنظرُ إليهِ بخوفٍ شَديدٍ، كانَ ينظُرُ إليهَا بعينينِ طيِّبتينِ ولكنَّ الفتَاةَ لمْ تُلاحِظْ البَراءَةَ في عَينيهِ، كانتْ تَرى فيهِ شِرِّيراً مُشَرَّدَاً مَجنُوناً، ابتَسَمَ لهَا ولوَّحَ بيدِهِ يُلقي التَّحيَّةَ فزَادَ الخَوفُ وبَدأتْ تِلكَ الصَّغِيرةُ بالبُكاءِ مُطالبَةً أمَّهَا بِمُغادَرَةِ العَرَبَةِ إلى عَرَبَةٍ أخرَى والأمُّ مازالتْ تُهَدِّئُ مِنْ رَوعِهَا، الفتاةُ تصرَخُ إِنَّهُ مَجنونٌ سَيُؤذِينِي، أخَافُ مِنهُ، الأمُّ تُخاطِبُ ابنتَهَا قائِلةً :

يا بُنَيَّتِي هُوَ ليسَ مَجنُونَاً ولا هُوَ بِشِرِّيرٍ ولكِنَّهُ رَجُلٌ قدْ يكونُ حَامِلاً مِنَ الألمِ مَا لا تحمِلهُ الجِّبالُ، قدْ يكونُ مُتألِّمَاً فقطْ، رُبَّمَا أنَّهُ يَتَعَذَّبُ لأمرٍ ما، لا تَخافِي يا صَغِيرتِي فَعينيه تُوحِي كَمْ هُوَ طيِّبٌ وذَكي ..

يا ابنتي عَلينا النَّظرُ لمَا وَراءَ المَظهرِ الخَارِجِيِّ والتفكِيرُ بأسْبابِهِ فمَنْ يبدُو لنَا شِرِيراً قدْ يكونُ طيِّبَاً، وليسَ كُلُّ مَنْ يَبتسِمْ لنا يَكونُ كذلكَ، فكمْ مِنَ الحِقدِ تُخفِي ابتسَاماتُ البَشَرِ المُصطنعَة وكمْ مِنَ الحُبِّ تُخفي أحزَانٌ قَهرَتْ أعتَى الرِّجَالِ، يا ابنتِي تعلَّمِي أنْ تقرئِي مابينَ السُّطُورِ وأنْ تنظُرِي لمَا خلفَ الأقنِعَة ..

لو صَدَّقنَا كُلَّ شَيءٍ نَسمَعُهُ لأَصَابَنا الجُنونُ، ولو فكَّرنَا بِمَا يُقالُ هُنا وهُناكَ تحتَ ذَرَائِعَ مُختلِفَةٍ وباسمِ تقدُّمِ البَشرِيَّةِ على لِسَانِ هذا وذاكَ لأوجَدنَا يومَ القِيامَةِ بأيدِينا..

يا بنيَّتِي هناكَ بشَرٌ لا يقتنِعونَ بنِهايَةِ العَالمِ حتَّى يَجِدُوهُ بأيدِيهِمْ وهناكَ منْ يُؤمِنُ بِهِ دُونَ أنْ يراهُ، إنَّ هذهِ الحياةَ شائِكةُ الدُّرُوبِ وقوانِينُها واضِحَةٌ لِمَنْ يُريدُ فلا تجعَلِي بِضعَ كلماتٍ وبَعضَاً مِنَ الرَّوَائِِ الكَرِيهَةِ تُعمِي عيونكِ وتَسُدَّ أنفَكِ عمَّا هُوَ جَمِيلٌ ..

اقترَبتِ الأمُّ لتُلقِي التَّحِيَّةَ ..
سَألتهُ الأمُّ عَنْ أحوالِهِ بطيبةٍ وحَنانٍ، انهمَرَتْ مِنْ عَينيهِ دُمُوعٌ غَالية، دُمُوعٌ عزيزَة، دموع رجل، ومَا أغلاهَا دُمُوعُ الرِّجَالْ، أخرَجَتْ مِنديلاً من مِحفظتِها، أعطتهُ المِنديلَ قائِلةً:

لا تحزَنْ يا رَجُلْ فمازالَ هناك مُتَّسَعٌ مِنَ الوقتِ ، إنَّ مَا نراهُ الآنَ ألمَاً قدْ نراهُ يوماً سَبباً مُباشرَاً لِسعادَةٍ قادمَةٍ، وما قدْ يُسعِدنا في هذهِ اللَّحظةِ قدْ يَحُوِّلْ حَياتنا القادِمَة لِجَحِيمٍ أسودَ..

أجابَها بصَوتٍ خافِتٍ :

أشكُرُ لكِ تعاطُفك ولكنْ مَا يَحُزُّ في نفسِي أنَّني لمْ أرتكِبْ أخطاءَ أستَحِقُّ عليهَا كُلَّ هذِهِ القسوَةِ مِنْ بَنِي البَشَرْ، أنا لمْ أقتلْ ولمْ أسرُقْ، أنا هَدرتُ البَصَرَ ونِصفَ عُمرِي فِي العَمَلِ المُتواصِلِ لأقدِّمَ شَيئَاً يُفِيدُ مَنْ حَولِي، أردتُ أنْ تكونَ حَيَاةُ مَنْ حَولِي أفضلَ، أردتُ أنْ لا أكونَ عَالةً على أحَدٍ فأكونَ مُنتِجَاً وعُنصُرَاً مُهِمَّاً فِي مُجتمَعِي ولكنَّ أحَداً لمْ يهتَمَّ لأمرِي فوجدتُ نفسِي على قارِعَةِ الطَّرِيقِ أجتَرُّ مِنْ صَفَحَاتِ عِلمِي وأقتاتُ فتاتَ جهلِ الآخرينَ، لمْ يهتَمَّ أحدٌ لما أقولُهُ ووجدْتُ أنَّ لِكُلٍّ حَقِيقتُهُ، أمَّا حَقِيقتي فقدْ تخَلَّى عَنهَا كُلُّ مَنْ حَولِي ..

قاطَعَتهُ بِسُؤَالِهَا ولمَاذا لمْ تُقاتِلْ لإثباتِ حقيقتِكَ التي تتكلَّمُ عَنهَا ؟؟

أجابَها بابتسَامَةٍ طيِّبَةٍ و هلِ الشَّمسُ تحتاجُ لإثباتِ وُجُودِهَا ؟؟!!..

إنَّ الشَّمسَ يا صَديقةُ أوضحُ مِنْ أنْ نبحَثَ عَنْ بَراهِينَ لوُجُودِهَا، لو كُنَّا سَنذهبُ لإثباتِ حَقيقةِ وُجُودِ الشَّمسِ فلنْ نجِدَ مَنْ يَبحثُ عَنْ وَسَائِلِ استخدامِ طاقتِهَا، مُشكِلتِي يَا صَديقةُ أننِي حَاولتُ أنْ أبحثَ فيمَا يَجعَلُنا نستفيدُ منَ الشمسِ، وعنْ وسائِلَ تجعلنا نتمَتَّعُ بِدِفئِها لا أنْ نَحتَرِقَ بِنَارِهَا..
ابتسَمتْ لهُ وأخرَجَتْ مِندِيلاً آخرَ لتَمسَحَ عَنْ جَبِينهِ تعَبَ سِنينَ خلتْ بِكُلِّ وِدٍّ وإعجَابٍ ومنْ ثَمَّ ألتفَتَت نحوَ صغِيرَتِهَا لتقولَ:

ألمْ أقلْ لكِ أنَّهُ قدْ يكونُ مُتألِّماً وحَسْب، فمَا كانَ منَ الصَّغِيرَةِ إلاَّ أنِ ابتسَمَتْ لهُ وعَادَتْ لهُدُوئِهَا بِحَذَرٍ..

سألهَا بِغَصَّةٍ هَلْ دَفنتِ عَزِيزاً عليكِ يوماً؟؟
أجابَتهُ مِنذُ زمَنٍ طَويلٍ كنتُ صَغِيرَةً وقتها، أذكرُ أنِّي بَكيتُ كثيرَاً رَغمَ أنني لمْ أكُنْ أعِي لمَاذا أبكِي!!، كانَ الكِبارُ يبكُونَ فبَكيتُ بِشَكلٍ تِلقائِيٍّ، ولِماذا تسألُنِي؟؟.

أنا مِنذُ وقتٍ ليسَ بِطويلٍ دفنتُ شخصَاً غالٍ على قلبي، ما جَعلني أتمنَّى الموتَ منْ جَشَعِ البَشرِ وقسوَتِهِمْ، لقدْ جِئنا للمقبرَةِ نحمِلُ نعشاً يضُمُّ جُثمانَ شخصٍ غالٍ على قلوبِنا التي كادتْ يومَها تنفطَّرُ، وعندَ وصولِنا تعرَّضنا لمَسرَحِيَّةٍ حياتيَّةٍ من نوعٍ خاصٍّ، لقد دَلَّنا حَفَّارُ القبُورِ لِقبرٍ مُجَهَّزٍ مُسبَقاً لنقومَ بعمليَّة الدَّفنِ ..

لمْ أكنْ أشُكُّ بأنَّ البَشرَ لا تُتاجِرُ بالموتِ، ولكنَّ عَجُوزَاً كانَ بالقربِ مِنَّا ولا يعرِفهُ أحَدٌ هَمَسَ بأذني كلماتِ مواسَاةٍ وقالَ بعدَهَا :

كيفَ ستدفِنونَ في هذا القبرِ شخصَاً عزيزاً عليكُمْ ؟؟.
وأينَ الغرابَةُ في الأمرِ أجَبتهُ مُتسائِلاً؟؟..

الغرابَةُ هوَ أنكَ لم تنظُرْ للقبرِ المجاورِ المُجَهَّزِ أيضاً، أنظرْ إليهِ قالَ لي وسَتفهمُ ماذا أعنِي، ألقيتُ نظرةً ولكنِّي لمْ أفهَم !!..

قالَ أنظرْ إنَّ القبرَ الذي سَتدفُنونَ فيهِ فقيدَكُمْ ضَيِّقٌ جِدَّاً وفي قُعرِهِ بِركَةٌ مِنْ مياهِ الأمطارِ، أمَّا القبرُ الثانِي فهوَ أوسَعُ وأكثرُ جَفافاً فقدْ تمَّ حَفرُهُ بعدَ هطولِ المَطرِ لا قبلهُ، فكانَ منَ السَّهلِ على الحَفَّارين توسِيعُهُ بما يكفِي وحَافظَ على حالتهِ الجَّافة..

أردفَ قائِلاً وقدْ بَدا عليهِ الاستفزازُ ليسَ منَ المعقولِ أنْ تدفِنوا عَزيزاً عليكمْ في قبرٍ ضَيِّقٍ وموحِلٍ وباردٍ، وما الحَلُّ سألتُهُ والألمُ يعتصِرُنِي ؟؟.

أجابنِي أدفعْ لحَفَّارِ القبُورِ فيُبَدِّلُ لكم القبرَ الضَيِّقَ بالقبرِ الفسِيحِ، وعندمَا هَمستُ للحفَّارِ بذلك أبَى أن يفعلَ ذلكَ بقولِهِ وماذا سَأقولُ لأصحَابِ القبرِ الفَسٍيحِ ؟؟،أجبتهُ لا تقلْ شيئاً، ببسَاطةٍ أحفِرْ غيرَهُ أو اعمَل على توسِيعِ القبرِ الضيِّقِ وغداً سَتشرِقُ الشَّمسُ فيَجِفَّ ..

أجابني لا ،لا أستطِيعُ وظهري يؤلِمُني، لن أفعلَ ذلكَ ..

دفعتُ لهُ المعلومَ فبَدَّلَ القبرَ بصمتٍ وابتسامَةٌ عرِيضةٌ، نعمْ ابتسامَتُهُ كانتِ الوَحيدةُ بينَ الجَّمعِ المُشِّيعِ، لقدْ باعَ القبرَ بمبلغٍ محترمٍ، لكنَّهُ حَطَّمَ في داخِلي الإنسانَ وجَعلنِي أفقدُ الثِّقةَ بكثيرٍ من البَشرِ ..

سَمِعَتهُ تلكَ الجميلةُ بشَغفٍ واهتمامٍ وعندمَا انتهى مِن روايتِهِ قالتْ له :

يا صدِيقِي في المقبرَةِ وعيادَةِ الطَّبيبِ نحنُ نُصَارِعُ الألمَ لكنَّ مَنْ يُحَاوِرنا ببسَاطةٍ شديدةٍ فقط جاءَ ليومٍ اعتيادِيٍّ للعملِ، كذلك عندما ينشُبُ حريقٌ في مَتجرِنا نكونُ في حالةِ حربٍ وأعصابٍ مشدودةٍ ولكنَّ رجالَ الإطفاءِ ببسَاطةٍ يُطفئونَ كُلَّ يومٍ الحرَائقَ وهذا يُعتبرُ بالنسبةِ لهمْ عَملاً يؤدُّونهُ وحَسبْ..
ما يُشكِّلُ لنا حَدَثاً تراجِيديَّاً مُؤلماً، قدْ يكونُ لغَيرِنا تسلِيةً أو مُجَرَّدَ عملٍ يومِيٍّ لا يَمُتُّ لمشاعِرهِمْ بِصِلةٍ..

أجابَها كلامُك فيهِ شيءٌ منَ الصِّحَّةِ ولكِنْ عِندَمَا تعلمِينَ في اليومِ التالِي عِندَ ذهابِكِ لتشييعِ جارِكمْ لمثواهُ الأخير وتكتشفِينَ أنَّ مَا حَدَثَ البَارِحَة مَعَك، يَحدُثُ اليَومَ مَع جَارِكَ وأنَّ بَرَكةَ المَاءِ مَا هِيَ إلاَّ نتيجَةً مُفتعَلةً بِمَدِّ غِطاءٍ مِنَ النايلونِ أسفلَ القبرِ لتتجَمَّعَ المِياهُ وأنَّ الحَفَرَبِشكلٍ ضَيِّقٍ مَقصُودٌ، وأنَّ هَذِهِ المَسرَحِيَّةَ تتكرَّرُ كُلَّ يَومٍ عِدَّةَ مَرَّاتٍ ونفسُ العَجُوزِ الطيِّبِ الذي هَمَسَ لكَ البَارِحَةَ كَلِمَاتِ مُوَاسَاةٍ يَهمِسُ لِغَيرِكَ اليَومَ وأنَّهُ شَرِيكٌ مُبَاشَرٌ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ فأنَّكِ سَتلعنِينَ كُلَّ مَا هُوَ بَشَرِيٌّ وسَتفقِدِينَ آخِرَ تعاطفٍ إنسَانِيٍّ وسَتتمَنَّينَ المَوتَ مِثلِي تمَامَاً..

لا يَا صَدِيقِي إنَّ هَذِهِ الأرضَ عَليهَا مِنَ الخيرِ الكثيرَ ومَا جَعَلكَ ترَاهَا سَودَاءَ مُظلِمَةً مَا هُوَ إلاَّ وَجهٌ آخرَ لِوَجهٍ مُشرِقٍ يُنادِي بِالخَيرِ، أنظرْ يَا صَدِيقِي حَولكَ وسَتجِدُ زُهُورَاً بِلونٍ وَردِيٍّ وكَثيرٌ مِنَ الطَّيِّبِين ..

عَلينا أن نثقَ بالمُعجِزَاتِ، إنَّ الحُلمَ يَتَحَقَّقُ فقطْ عِندَمَا ننتظِرُهُ، إنَّ المُعجِزَةَ تحدُثُ فقطْ عِندَمَا نثِقُ بِقدُومِهَا..

تتابِعُ قائِلةً:

(أسُول) فِي رِوَايَةِ( الأشرِعَةِ الحَمرَاء) وعِندَمَا أخبَرَتْ أهلَ قريَتِهَا عَمَّا قالتهُ لهَا البَصَّارَةُ بأنَّهَا سَتتزوَّجُ أميرَاً يأتِيهَا على مَتنِ سَفينةٍ كبِيرَةٍ مِنَ البَحرِ بِشِرَاعٍ أحمَرَ كبير، ضَحِكَ أهلُ القريَةِ وأستهزأ مِنهَا الكَبيرُ والصَّغِيرُ، لكِنَّهَا وثِقتْ وآمَنتْ بِأنَّ المُعجِزَاتِ والأحلامِ لابُدَّ سَتتحَقَّقْ، كانتْ فِي كُلِّ يَومٍ عِندَ الفجرِ تتَّجِهُ إلى الشَّاطِئِ لِتنتظِرَ أميرَهَا القادِمَ مِنَ المَجهُول، رَافِعَاً شِرَاعَ السَّفِينةِ الأحمَرِ، كانتْ تذهَبُ للشَّاطِئِ بِلا كَللٍ ولا مَللٍ لتنتظِرَ(غري) فارِسَ أحلامِهَا القادِمِ مِنْ مَملكتِهِ ليأخذَهَا زوجَةً وَأمِيرَةً على قلبِهِ وبِلادِهِ، أهلُ قريَتِهَا كَانوا يقولونَ عَنهَا أنَّهَا مَجنُونَةٌ و يَضحَكُونَ، كانتْ تبكِي كُلَّ يَومٍ قبلَ النَّومِ، ولكِنَّهَا فِي الفجرِ كانتْ تذهَبُ مِنْ جَدِيدٍ للشَّاطِئِ، وفي يَومٍ مِنَ الأيَّامِ زَارَ قريَتَهُمْ أمِيرٌ غَرِيبٌ فسَمِعَ بِقِصَّتِهَا، ذَهَبَ إليهَا فوَجَدَ الفتاةَ التي كانَ يحلُمُ أنْ تكونَ زوجَةً له،ُ جَاءَهَا مُحَاوِلاً بِكُلِّ الطُّرُقِ ليَجعَلهَا تَهتَمُّ لأمرِهِ، كَلَّمَهَا، غَازَلهَا،حَاوَلَ إِغرَاقهَا بالهَدَايَا، لكِنَّهَا لمْ تُكَلِّمُهُ، لمْ تقبَلْ هَدايَاهُ، غادَرَ الأمِيرُ عَائِدَاً لِبِلادِهِ، لكِنَّهُ لمْ يَستَطِعْ نِسيَانَهَا، فأشترَى قِمَاشَاً أحمَرَ وَصَنعَ أكبَرَ شِرَاعٍ في ذلكَ العَصرِ وأبحَرَ إليهَا، هَا قدْ وَصَلَ وهِيَ كعَادَتِهَا تنتظِرُ أمِيرَهَا وفارِسَ أحلامِهَا عِندَ الشَّاطِئِ، أجتمَعَ أهلُ القريَةِ ليُشَاهِدُوا كَيفَ أنَّ (أسُول) تُحَقِّقُ حُلُمَهَا، وَ تَصعَدَ لِسَفِينَةِ أمِيرِهَا المُنتظَرْ..

يَا صَدِيقِي إذا مَا أردْنَا المُعجِزَةَ فعَلينا الوُثوقَ فِيهَا وإنْ أرَدنَا أنْ نَرَى الخَيرَ فأوَّلُ شَيءٍ عَلينَا أنْ نكونَ خَيِّرِين وإنْ أرَدنَا أنْ يُحِبَّنَا البَشَرُ فعَلينا أنْ نُحِبَّهُمْ ونثِقَ بِهِمْ..

نظرَ إليهَا بِغَرَابَةٍ ودَهشَةٍ وقالْ :

صَدَقتِ يَا صَدِيقة لقدْ أزحتِ عَنْ عَيني غِشَاءً كادَ يُعمِينِي و جَعلتِ نفسِي أهدَأ وَأطيَبَ..
وإلى اليَوم لمْ ينتهِ ذلكَ الحِوَارُ فقدْ وَلدَتِ الأمُّ أخاً رَائِعَاً لتلكَ الفتَاةِ وبَاعَ الرَّجُلُ بَراءَةَ اختِرَاعِهِ بِسِعرِ رَغِيفِ خُبزٍ سَاخِنٍ كوَجهِ تلكَ السَّيِّدَةِ لتستفيدَ البَشَرِيَّةُ مِنِ اختِرَاعِهِ، وأصبَحَ أبَاً لطِفلةٍ وطِفلٍ...

ومازالتِ المَقبرَةُ تستقبِلُ أمواتاً ينتظِرُونَ سُكَّاناً جُدُداً والشَّمسُ تُشرِقُ مِنْ خلفِ الجَّبَلِ في ذاتِ المَكانِ وفي أماكِنَ أخرَى على هَذِهِ البَسِيطةِ، وضَحايَا لبِيرُوقرَاطِيَّةِ مَنْ بِيَدِهِمِ القرَارُ يَصعَدُونَ لرَأسِ الجَبَلِ مُجبَرِينَ، وهُمْ يَعلمُونَ أنَّ صُعُودَهُمْ بِلا فائِدَةٍ وأنَّ شُعَاعَ الشَّمسِ دَلِيلٌ على شُرُوقِهَا، كمَا أنَّ هُنَاكَ مَنْ تذهَبُ للشَّاطِئِ عِندَ الفجرِ ومَنْ تنتظِرُ أمِيرَهَا عِندَ النَّافِذَةِ..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.shamyat.ru/
بن الضيعة
فريق الأحلام
فريق الأحلام
بن الضيعة


عدد المشاركات : 2627
تاريخ التسجيل : 24/09/2008

خلف الأقنعة.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: خلف الأقنعة..   خلف الأقنعة.. Empty01.06.09 8:27




ستبقى الشمس تشرق وهناك من يبحث عن دليل شروقها ...


ولابد من قدوم فارس أحلام ... يبدد الدخان ويزيح عن النفس غبار الزمن


ولن تدوم الأقنعة

مساهمة مليئة بالانسانية التي يفتقدها الانسان في عالمنا ...

أخي بسام صباح الخير ....

شكرا لهذه المقالة التي تمتليء بفيض من الأنسانية

كل التحية والتقدير

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://d-way.freehostia.com/abnaldi3a.htm
Mohannad
الإدارة
Mohannad


مكان الإقامة : : لامكان لاوطن
عدد المشاركات : 2983
تاريخ التسجيل : 27/08/2008

خلف الأقنعة.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: خلف الأقنعة..   خلف الأقنعة.. Empty01.06.09 9:53

اقتباس :
يا ابنتِي تعلَّمِي أنْ تقرئِي مابينَ السُّطُورِ وأنْ تنظُرِي لمَا خلفَ الأقنِعَة ..

قصتك يا صديقي تحمل صورة مختلفة لمفهوم الأقنعة
غالباً تستخدم هذه الكلمة أو هذا الوصف إن صح التعبير على ما يصور الإنسان بذئب يحمل صورة الحمل
ولكن هذه المرة صورة مختلفة .. حمل رسم على جبينه صورة الذئب من جراء القهر والظلم
يا صديقي هكذا هم العظماء يفنون من أجل أن يحيا غيرهم
والعظيم مهما ضاقت عليه الدنيا والأحوال لابد ي ليلة ما أن يشع النور بجانبه
الأمل قادم لكل من عمل قصد الخير لللإنسانية والحب والإستمرار لها
رائعة جداً فكرتك وتحمل في طياتها صورة مختلفة لصفة سلبية عكست كل الإيجاب الموجود في الداخل

شكراً لك هذا العرض المميز والفكرة الرائعة
ودمت صديقاً رائعاً لنا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مسافرة
فريق الأحلام
فريق الأحلام
مسافرة


عدد المشاركات : 787
تاريخ التسجيل : 26/03/2009

خلف الأقنعة.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: خلف الأقنعة..   خلف الأقنعة.. Empty01.06.09 12:31

قصة جميلة جدا تزخر بمواقف انسانية ومشاعر كبيرة قد تستحق اكثر من قصة واحدة للتعبير عنها وتستحق اكثر من قراءة واحدة للالمام بتفاصيلها ..شكرا لك وسلمت يداَاك
استوقفتني بعض العبارات الجميلة يَا صَدِيقِي إذا مَا أردْنَا المُعجِزَةَ فعَلينا الوُثوقَ فِيهَا.......ما يُشكِّلُ لنا حَدَثاً تراجِيديَّاً مُؤلماً، قدْ يكونُ لغَيرِنا تسلِيةً .....لو كُنَّا سَنذهبُ لإثباتِ حَقيقةِ وُجُودِ الشَّمسِ فلنْ نجِدَ مَنْ يَبحثُ عَنْ وَسَائِلِ استخدامِ طاقتِهَا، : .....
تقبل تحيتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
mai
فريق الأحلام
فريق الأحلام
mai


مكان الإقامة : : سوريا
عدد المشاركات : 1861
العمر : 45
تاريخ التسجيل : 28/11/2008

خلف الأقنعة.. Empty
مُساهمةموضوع: رد: خلف الأقنعة..   خلف الأقنعة.. Empty01.06.09 14:40

عبارتك كلها بسام تفيض بأنسانية رائعة
مشكور على مساهمتك الجميلة جدا والتي فعلا توقظ في النفس مشاعر عدّة ما بين النقمة على الأقنعة والكذب وكل ما يمت لها بصلة
وما بين الشفافية والمصداقية التي تكتب بها
اشكرك جزيل الشكر
وأتمنى المزيد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.ainaljrn.com
 
خلف الأقنعة..
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
Dreams way :: ساحة ابداعات الأعضاء وماخطت به أقلامهم :: القصة القصيرة والخاطرة-
انتقل الى: