حوض الحمام مليء بالماء الساخن والرغوة على سطح الماء تناديه، تغريه مياه ساخنة رغم حرارة الجو الربيعية، النافذة تطل على حديقة المنزل وأصوات عصافير أتت لتؤانسه في لحظات عصيبة يمر بها، شعورٌ بذنب، لا ذنب له فيه،- يؤرقه - منذ أول البارحة.
وراء النافذة تكفهر السماء بغيوم سوداء لتنذر برعد وبرق، كأن السماء غاضبة منه، شعورٌ بالخيبة والقرف مما يجري حوله، فما كان يوماً خائن.
دخل للحمام وكأنه يحمل كرة أرضية بما عليها على كتفيه، نظر في المرآة، لحيته مهملة وشكله يوحي بالمرض، وكأنه سجين خارج من زنزانة، كأنه قط خرج لتوه من مدخنة المدفأة، سواد تحت العينين ورقبة متسخة، حتى قميصه المنزلي قد اتسخ.
غاص تحت الرغوة مختبئاً من واقع مؤلم، كاد يختنق، لم يكن ليرغب بإخراج رأسه، كان يريد أن يمتحن قدرته على الصبر، صبر طويلاً، لكن الرئتين تطلبان الأوكسجين، عاند حتى شعر بدوار في رأسه، انتابه شعور بالخوف، خرج بأنفه وفمه عبر الرغوة وشهق كل ما في الحمام من هواء ورغوة، لم يكترث، فهاتف أول البارحة جعله يكفر بكل من حوله وبكل شيء كان يعتبره مقدس، سقطت القدسية، وظهرت كل أنواع الاشمئزاز من تصرفات ثنائية المفاهيم..
يبدو أنك وقعت في مطب أنت أكبر من أن تقع فيه، وهمك أكبر من مشكلتك، - لا تقلق يا رجل – فأنه ينام قرير العين ولا يتوقع حتى ماذا يحصل لك، فمن يده بالماء لا كمن يده بالنار، صوت العقل كان يقول له، هيا القي بجسدك المنهك في هذا الحوض المليء بالماء الساخن والرغوة المعطرة والمعقم بأملاح بحرية، على الأقل يا صديقي هذا الفعل لن يستطيع أحد أن يمنعك عنه أو يحاسبك عليه..
تساءل مخاطباً مرآة ذاته، ما الذي جعلك تصل لهذا الحال؟؟، ماذا تريد؟؟، من أنت وكيف تهمل ذاتك لأجل الغير؟؟، من هو هذا الغير؟؟ ماذا يقدم لك،؟؟.
هل أصبحت حريتك أن تستحم دون إذن تفرحك؟؟ يالسخافتك وجبنك، ويحك.
الماء يغمر جسده المشتت كأفكاره وفقاعات الرغوة تتلاشى أمام ناظريه فقاعة بعد فقاعة، كانت الفقاعات كثيرة، كان موت كل فقاعة يذكره بموت أحد الأحبة.
انتهت رحلة الموت هذه ولم يبقى إلا ماء مملح بملح بحري معبأ بأكياس من البحر الميت كما يقولون!! " كيف يمكن لبحر اسمه الميت أن يمنح الحيوية والحياة"؟؟، مفارقات لا يجد لها أجوبة، سبحان الله، وأين مقولة " فاقد الشيء لا يعطيه"، تناول مرآة جانبية صغيرة وماكينة الحلاقة - بدأ بحلق ذقنه - وكلما غسل الشفرة كان ينظر للشعيرات التي تسبح بالماء لتنتهي – ببلوعة- الحمام مثلها كمثل الماء الذي كان حلماً وغادر عبر – البلوعة - لغير رجعة وكما الفقاعات التي غادرت دون إذن أو اعتذار.
فقاعات لا قيمة ولا وزن لها تغادر دون اعتذار، وأنت من أنت؟؟ ماذا تريد وأين شخصيتك ورجولتك؟؟، هل ستبقى تحت رحمة من قال ومن سيقول وتبقى أبد الدهر بموقع المدافع حتى عن أبسط الحقوق؟؟.
ستنتظر يا صديقي حتى تغادر عبر بلوعة الأيام؟؟، مثلك مثل شعيرات قذرة، ويحك، أستفق، كفاك هزائم لا تحتمل..
أصوات رعد وبرق أخرجته من بوتقة لا يعرف كيف وقع فيها، خرج بالمنشفة لينظر عبر النافذة، هو يعشق الأمطار الربيعية، هطلت أمطار على غير موعد وأيضاً ابتلعتها الأرض، عاد للحمام تناول كريم ما بعد الحلاقة، دهن ذقنه المحلوقة فشعر بانتعاش ونشوة غير طبيعية، نظر للمرة الأخيرة في مرآته وخاطبها، كالذي يخاطب الضمير الميت عند كل البشر، وكالذي يخاطب الظلم الذي نمارسه كل يوم عندما نقول كلمتنا دون أن نفكر أن من سيسمعها سيتأثر بها ويحللها، وأن كلامنا قد يكون ثقيلاً على غيرنا..
على أي شيء تحزن يا صديقي؟؟.
إلا تذكر قول المتنبي:
أنام ملأ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ما بك تفكر في شوارد ما قال بعضهم؟؟، دعهم يفكرون بما ستقول أنت، كانت الأفكار في رأسه تتزاحم وتتصارع، الحاجة، الأخلاق، وكثير من السخرية، ازدواجية حمقاء، البعض يخلع عنك آخر أوراق التوت ويضحك، يسخر منك ويتفاخر كم هم قادر، أصدقاء لك أنفسهم يدعون، وعندما تحبهم يعتبرون حبك ضعفاً، طيبتك غباء يحسبون، لا يهمهم همك ولا بك أصلاً يعترفون، لقد تحولت القيم لمال وجاه، وصار الصمت موجعاً.
صراعه هذا جعله يعود لمرآته مخاطباً:
لا تحزن فالماء ذاهب والفقاعات لن تعود كما الشعر المحلوق لن يتكرر، وكما البارحة ذهب ولن يرجع، فأن الغد قادم وأنت من تصنعه فأنهض ولا تقنط من رحمة الله، دع الناس تفكر بما تقوله أنت ولا تفكر بما يقولون، كن أنت صانع الحدث، ولا تكن من المتأثرين فيه، قال ذلك للمرآة وخرج حافياً بسروال قصير ليقف تحت أمطار ربيعية، رفع يديه للسماء داعياً الله الفرج وإزالة الهم والكرب وتعوذ من قهر الرجال، أجابته السماء بمطر أقوى وأكثف حتى غسل كل الغبار العالق في حنجرته، فصرخ يا رب أنا ألتجئ إليك..
وأنطلق للحياة من جديد..