لقد وجد في التاريخ القديم والحديث أناس أثبتوا للبشرية جمعاء بأن الإصابة بعاهة أو أكثر ليست نهاية العالم، وأن الإرادة القوية مدعومة بالموهبة قد تجعل من صاحب عاهة بطل إنتاج يسبق الأصحاء بأشواط كثيرة.
ومن العاهات التي قد تصيب الإنسان نقص السمع بدرجاته المختلفة، مما يعزل المصاب عن الأصوات الخارجية، وإذا حصلت هذه الإصابة باكراً فتكون مسؤولة عن تأخر في النطق ويغدو الأصم أبكما.
ومع ذلك لم يستطع الصمم أن يثني بعض ضحاياه من المضي قدماً في تيار الحياة الهائج، وكي يثبت هؤلاء المعاقون بأن الإنسان مجموعة رائعة من القدرات إن توقفت إحداها عن العمل لسبب ما عاوضت أخرى بوجود محرك الإيمان والإرادة والتصميم.
وكل منا يصادف أثناء ممارسته اليومية أعداداً كبيرة من الصم الذين ابتعدوا عن نشاطات الحياة المختلفة بسبب عجزهم واختاروا البقاء في الظل خوفاً وطمعاً، وساعدهم على ذلك فقر الظروف والإمكانيات العامة المقدمة لهم، فتعاضد ضعف الإرادة مع قلة إمكانيات التأهيل والتدريب فكانت النتيجة هرباً من العمل النافع والحياة الاجتماعية.
وكم يأخذنا العجب من أصم يطرق بابنا وقد أتقن القراءة والكتابة، والتهم من شتى أنواع الثقافات والعلوم الشيء الكثير، ومارس هوايات رياضية وفنية عديدة، وأنهى دراسة جامعية أو أتقن حرفة يدوية، وهو سعيد بما أنجز، فخور بما وصل إليه.
إن تصفح كتب التاريخ يبرز لنا شخصيات كانت تعاني من الصمم، ولم يكن ذلك الأمر عائقاً لها من أن تترك بصمة واضحة في تطور الإنسانية جمعاء.
وقد قام أحد الكتاب ـ جزاه الله خيراً ـ وهو السيد زهير جمجوم بإصدار كتاب عن أشهر المعوقين في العالم استعرض فيه حياة خمسين شخصاً من مشاهير المعوقين إعاقات مختلفة سواء أكانت جسمية أم حسية أم عقلية.
وقد رأيت أن أختار من هذا الكتاب الشخصيات المصابة بالصمم وأن أختصر ماورد في هذا الكتاب بشأنها، ثم أضيف إلى ماذكره الكاتب بعض الملاحظات الطبية التي يمكن أن نستنتجها من سيرة المعاق الموهبة.
ملاحظة: إن النصوص التاريخية قد أخذت بكاملها من كتاب أشهر المعوقين في العالم مع بعض الاختصار، أما التعليقات فهي استنتاجات شخصية.
لودفيج فان بيتهوفن
ولد بيتهوفن في مدينة بون ألمانيا عام 1770م، وسعى والده إلى تعليمه أصول العزف على البيانو والقيثارة وهو في الثالثة من عمره.
تتلمذ في البداية على يد موتسارت ثم على يد هايدن.
نشأ بيتهوفن فقيراً وعاش فقيراً حتى آخر لحظة من حياته دون أن يحيد عن مبادئه العليا التي اعتنقها. وفي عام 1802م عندما كان بيتهوفن يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً كتب:
(آه منكم أيها الناس الذين ترونني كئيباً، حقوداً، فظ الخلق، إنكم تظلمونني هكذا. أنتم لا تعرفون السبب الغامض لسلوكي هذا، فمنذ سني الطفولة تفتح قلبي وروحي على الرقة والطيبة، وكان هدفي دوماً الوصول إلى الكمال، وتحقيق الأمور العظيمة، ولكن فكروا في أنني أعاني منذ ست سنوات من ألم لا شفاء له، زاده أطباء عاجزون.
لقد ولدت حاد المزاج مرهف الإحساس لمسرات الحياة والمجتمع، ولكنني سرعان ما اضطررت إلى الانسحاب من الحياة العامة واللجوء إلى الوحدة، وعندما كنت أحاول أحياناً التغلب على ذلك كنت أصد بقسوة ومع ذلك لم يكن بوسعي أن أقول للناس: (ارفعوا أصواتكم صيحوا) فأنا أصم).
يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سماعه، أو يسمع آخر غناء أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئاً، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، وكدت أضع حدا لحياتي البائسة، إلا أن الفن، الفن وحده هو الذي منعني من ذلك).
وعندما أصبح بيتهوفن يتجنب الناس لجأ إلى الطبيعة، يدون فيها أنغامه وألحانه، فأبدع موسيقى تعبر تعبيراً صادقاً عن إحساس الإنسان.
ولا تزال سيمفونياته التسع ومؤلفاته العديدة نبعاً ينهل منه كل محب للموسيقى، وكانت أعظم موسيقاه على الإطلاق تلك التي انتجها في مرحلته الأخيرة الصماء، فمن وسط أشد أنواع العزلة عمقاً، وهب بيتهوفن فهما أعمق ـ لقد كان مريضاً فقيراً أصم مهجوراً من أعز الناس وأحبهم لديه، ومن خلال هذه الأعماق الرهيبة التي كان يقبع فيها أصدر أعظم ألحانه وأكثرها خلوداً.
وبتضاعف أمراضه في فترة حياته الأخيرة تضاعفت أحزانه لتنتهي حياته بوفاته عام 1827م.
التعليق:
* يلاحظ بأن بيتهوفن أصيب في العضو الرئيسي والنبيل بالنسبة لممارسته الموسيقا، ومع ذلك لم يثنه ذلك عن الإبداع والإنتاج على أعلى المستويات، إن لم نقل بأن عاهته السمعية أثرت في انتاجه الموسيقي إلى درجة التميز والحساسية المرهفة.
* وإذا تساءلنا كيف كان بيتهوفن يستمع إلى موسيقاه؟ فالمصادر تذكر أنه عندما اشتد نقص السمع لديه كان يستمع إلى مقطوعاته وعزفه بوضع طرف مسطرة بين أسنانه بينما يضع طرفها الآخر على البيانو، وهو ما يطلق عليه السمع بالطريق العظمي.
وهذا الأمر ـ كما يبدو لي ـ يتناسب مع آفة توصيلية ثنائية الجانب، لأنه في هذا النمط من الآفات نستطيع السماع بالطريق العظمي، بينما في الآفات الحسية العصبية لايمكن الاستفادة من هذا الطريق.
فأمام نقص سمع توصيلي ثنائي الجانب متدرج، في بداية الكهولة، نفكر بتشخيص تصلب الركابة ولكن ذلك بشكل غير مؤكد فما هو إلا تشخيص بالطريق الراجع اعتماداً على وصف بيتهوفن لنقص السمع لديه.
* يلاحظ من كلام بيتهوفن حالة العزلة الشديدة التي يفرضها نقص السمع، ويضاف إلى ذلك التأثير السيء المزعج الذي قد ينجم عن وجود طنين مرافق.
ديفيد رايت
ولد ديفيد رايت في جوها نسبرج جنوب أفريقيا عام 1920م، وقد أحب نغمة الشعر الموسيقية منذ طفولته، كما ورث عن أسرته ميلا إلى الموسيقى، وفي سن الرابعة أصيب بصمم كامل، لحسن حظه فقد كان يحمل في أذنيه ذكريات الأصوات من أيام الطفولة مما مكنه من الحديث وأتاح تنمية مواهبه.
سافر رايت إلى لندن بصحبة أمه طلباً للعلاج من الصمم، وهناك ازداد تعلقاً بالشعر، وقد قال في كتاب قصة حياته الذي أسماه (صمم)، إنه أحس بأن الصمم قد دفعه إلى العناية بالشعر كنوع من التعويض عما فاته من الأصوات الخارجية، حتى أنه في سن الثامنة وجد نفسه مدفوعاً إلى كتابة الشعر.
نقل رايت بعد ذلك إلى مدرسة داخلية خاصة بالصمم، وفيها عانى من مشقة الحياة وأحس بالعذاب، وكان في الليل عندما تطفأ الأنوار لاينام، يسلي نفسه بتكرار ما حفظ من الشعر الكثير، وكان هذه الحفلات الليلية أفضل تدريب ذاتي تلقاه في القافية وحركات الحروف.
أنفق رايت ثلاث سنوات في مدرسة الصم، وعندما تركها أحس بالراحة لأنها وإن أفادته كثيراً إلا أنها جعلته يعيش في بحر من الصمم، فانعزل بذلك عن العالم الخارجي، كما لعب ناظر المدرسة ومعاونوه دوراً مخيفاً إذ كان زجزه وتصحيحه لأخطاء الطلاب الصم في الفصل على شكل طرقات عنيفة بكعب حذائه على أرضية الفصل الخشبية، فتصل الطرقات إليه في شكل ذبذبات تنبئ برسائل زاجرة مؤلمة، وأحس رايت بالسعادة للخلاص من هذه المدرسة.
بعد انتهاء دراسته الثانوية درس في إحدى جامعات اكسفورد الأدب واللغة الانجليزية وواجهته مشكلة الاستماع إلى المحاضرات وفهم المراد منها، وعوض عن ذلك بالتردد إلى المكتبات وقراءة المراجع.
في تلك الفترة أنشأ ديوانه الشعري الأول وتخرج عام 1942م بمرتبة الشرف الثانية، حيث غادر اكسفورد ونزح إلى لندن ليعمل سنوات قليلة في صحيفة (الصنداي تايمز).
وقد عمل رايت مدرساً لفترة في جامعة ليدز.
لقد ترك الصمم بصمته على صوره الشعرية، فجعلته يرسم أحياناً لوحات صامتة لأشياء ذات صوت، تاركاً للقارئ أو السامع إكمال اللوحة بنفسه، مما يضفي على هذه اللوحات جواً بلاغياً مؤثراً.
وقد وجد رايت أنس الحياة مع زوجته فهي تقرأ شعره في المحافل إذ يبدو صوته غريباً في القراءة أحياناً، وهي التي ترجم له أقوال الناس ويمكنه فهمها من خلال حركة شفتيها.
وحصيلة إنتاجه حوالي 24 كتاباً تشمل أعماله ومؤلفاته ودواوينه.
التعليق:
* أصيب الشاعر بالصمم في سن السابعة، ومن المعلوم أن أسباب نقص السمع في هذا العمر عديدة أكثرها شيوعاً النكاف والتهاب السحايا إضافة إلى أسباب أخرى عديدة.
وطبعاً فإن نقص السمع الحاصل هو حسي عصبي، مما له من تأثير على النطق والحياة الاجتماعية.
* إصابة الطفل بالصمم في سنوات حياته الأولى تؤثر على نطقه بدرجة كبيرة وبشكل متناسب مع درجة نقص السمع، أما في أعمار أكبر فيغدو تأثير نقص السمع على النطق أقل بشرط دعم هذا النطق بتعليم القراءة والكتابة والتشجيع والتأهيل المستمرين.
* عندما يكون نقص السمع شديداً يفقد الإنسان قدرته على مراقبة شدة صوته، لذلك يغلب أن يكون الصوت عالياً، وله طريقة لفظ خاصة.
* إن مدارس الصم البكم قد تكون الحل الوحيد أمام طفل أصم أبكم ليس لديه بقايا سمعية، حيث يتعلم طريقة المخاطبة بالإشارة ولغة الشفاه إضافة إلى تعلمه القراءة والكتابة والهوايات المختلفة.
ولكن عندما يكون هناك بقايا سمعية فيفضل الاستفادة منها قدر الإمكان ودعمها بالمعينات السمعية المناسبة، ثم وحسب الحالة وحسب مستوى التأهيل المقدم إما أن يوجه الطفل إلى المدارس العادية أو إلى مدارس الصم والبكم.
ولابد من تأمين العدد الكافي من مدارس الصم البكم، وأن تكون هذه المدارس مجهزة بالخبراء المؤهلين وبالأجهزة المتطورة اللازمة حتى نستطيع أن ننتشل الأعداد الكبيرة من الصم البكم الموجودة في جميع محافظاتنا، وأن نهيء لهم الفرص اللازمة لبناء حياتهم أولاً ومجتمعهم ثانياً.
الكميت بن زيد الأسدي
ولد بالكوفة سنة 60هـ، وهي منبر الشعر والخطابة، ومدرسة اللغات والثقافة، ومثار العصبيات والأحزاب والفتن.
عندما شب الكميت أخذ يختلف إلى دروس العلماء، يتلقن الفقه والحديث النبوي وأنساب العرب وأيامها، ثم غدا معلماً يعلم الناشئة في المسجد.
لقد كان الكميت مصاباً بالصمم وقد برع في الشعر حتى قيل فيه (لولا شعر الكميت لما كان للغة ترجمان، ولا للبيان لسان) وقد ورد في خزانة الأدب (في الكميت خصال لم تكن في شاعر، كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط).
قتل الكميت في خلافة مروان بن محمد عام 126هـ، وكان مبلغ شعره حين مات حوالي خمسة آلاف وثمانين بيتاً.
التعليق:
مرة أخرى يثبت التاريخ أن الصمم ماكان ليثبط صاحب موهبة وإرادة عن تلقي العلم وقول الشعر والمشاركة في الأحداث السياسية اليومية بشكل فاعل.
محمد بن سيرين
كان والده سيرين ضمن الأسرى الذين أخذهم خالد بن الوليد في معركة (عين التمر) وساقهم إلى المدينة المنورة.
وبعد أن كاتب سيرين سيده وسعى إلى اعتاق نفسه تزوج من صفية مولاة أبي بكر الصديق.
ولد محمد بن سيرين سنة 33هـ، ولما صار غلاماً أقبل على علوم عصره ينهل منها وخاصة كتاب الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
انتقل مع أسرته إلى البصرة، وهناك نظم أوقاته بين العلم والعبادة والتجارة والعمل بحيث يعطي كل ذي حق حقه، وقد كان مصاباً بالصمم.
إن سيرة ابن سيرين حافلة بالعلم والخير والتقى، والحرص على الحلال في التجارة، إضافة إلى مواقف الشجاعة والصدق.
وقال عنه الشعبي (عليكم بذلك الأصم) وقال عنه الأصمعي: (إذا حدث الأصم بشيء فاشدد يديك).
توفي محمد بن سيرين سنة 110هـ.
التعليق:
لعل شباب أمتنا الذين أكرمهم الله بتمام الخلقة، وبسلامة الحواس يعتبرون بتلك المنارات التي أضاءت وتضيء وستظل تضيء ساحات العلم والمعرفة والأدب والفن إلى يوم الدين.
مصطفى صادق الرافعي
ولد الرافعي في قرية (بهتيم) بمحافظة القليوبية عام 1880م، واستقر فيما بعد في مدينة طنطا وعاش فيها كل حياته.
دخل الرافعي المدرسة في نحو الثانية عشر من عمره، فأتم الدروس الابتدائية، ولكنه لم يتجاوزها، إذ أصيب بمرض شديد لم يتركه إلا بعد أن أثر في أعصاب سمعه، فأخذ سمعه يضعف ويثقل حتى أصبح أصم وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، فلم يعد يصله من أحاديث العالم من حوله شيء.
أكب الرافعي على الدرس والمطالعة، وحصل على عمل فعهد إليه الكتابة في بعض المحاكم الشرعية، واستقر أخيراً في محكمة طنطا، يتولى الكتابة فيها إلى يومه الأخير.
ولم يساعده الصمم على الاختلاط الكثير بين الناس، ولكنه كان حسن العشرة دقيقاً في أعماله، كما عرف فيه شدة تدينه وغيرته على التقاليد الموروثة عن السلف.
لقد أثرى الرافعي معلوماته اللغوية بحفظ القرآن الكريم والحديث النبوي ومواقف أعلام الإسلام وشعر القدماء والمحدثين وخطبهم وآثارهم، وكان شاعراً مبدعاً، وكاتباً بارعاً ومؤرخاً وناقداً.
ترك الرافعي رغم حياته القصيرة نسبياً تراثاً أدبياً وفيراً، فقد خلف ديوانين في الشعر إضافة إلى كتب أدبية عديدة وقصائد عديدة متفرقة.
التعليق:
نحن أمام حالة نقص سمع بدأ في المرحلة الابتدائية وتدرج في رقيه حتى غدا صمما تاماً تقريباً في حوالي الثلاثين من العمر.
من الصعب وضع تشخيص سببي أمام هذه الحالة اعتماداً على المعلومات الفقيرة المتوفرة بين أيدينا في هذه المقالة، وخاصة أننا لا نعرف تماماً ماهو المرض الخطير الذي أصابه قبل حدوث الصمم لديه.
إن أسباب نقص السمع الحسي العصبي المكتسب عديدة، فقد تكون أنتانية أو رضية أو انسمامية دوائية أو وعائية أو مناعية ذاتية.. الخ.
وهناك حالات من نقص السمع الوراثي التي تظهر بشكل متأخر وتتدرج في سيرها، ولاننسى طبعاً نقص السمع الشيخي الذي يصيب الأعمار المتأخرة.
هيلين كيلر
أعجوبة المعاقين في كل العصور.
ولدت هيلين كيلر في مدينة (تسكمبيا) من أعمال ولاية (ألا باما) بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1880م، وقبل أن تبلغ الثانية من عمرها أصيبت بمرض أفقدها السمع والبصر، وبالتالي عجزت عن الكلام لانعدام السمع.
سعت والدتها إلى تعليمها استعمال يديها في عمل إشارات تفصح بها جزئياً عما تود قوله.
وضعها والدها في معهد للعميان، وطلبا من رئس القسم أن يرشدها إلى معلمة لها، فأرشدها إلى (آن سوليفان) التي كانت قد أصيبت أول عمرها بمرض أفقدها بصرها، ودخلت معهد العميان في الرابعة عشرة من عمرها، وبعد حين عاد إليها بصرها جزئياً.
وقد التقت بعد انتهاء دراستها بهيلين كيلر لتبدأ معها رحلة طويلة مثيرة هي أشبه بالأعجوبة وتمثل في الحقيقة أروع إنجاز تم في حقل تأهيل المعوقين.
رحبت أسرة كيلر بالمعلمة سوليفان ترحيباً حاراً، وكانت هيلين آنذاك في حوالي السادسة من عمرها. بدأت سوليفان تعلمها الحروف الأبجدية بكتابتها على كفها بأصابعها واستعملت كذلك قطعاً من الكرتون عليها أحرف نافرة، كانت هيلين تلمسها بيديها وتدريجياً بدأت تؤلف الكلمات والجمل بنفسها.
وبعد مرور عام تعلمت هيلين تسعمئة كلمة، واستطاعت كذلك دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط صنعت على أرض الحديقة كما درست علم النبات.
وفي سن العاشرة تعلمت هيلين قراءة الأبجدية الخاصة بالمكفوفين وأصبح بإمكانها الاتصال بالآخرين عن طريقها.
ثم في مرحلة ثانية أخذت سوليفان تلميذتها إلى معلمة قديرة تدعى (سارة فولر) تعمل رئيسة لمعهد (هوارس مان) للصم في بوسطن وبدأت المعلمة الجديدة مهمة تعليمها الكلام، بوضعها يديها على فمها أثناء حديثها لتحس بدقة طريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين.
وانقضت فترة طويلة قبل أن يصبح باستطاعة أحد أن يفهم الأصوات التي كانت هيلين تصدرها.
لم يكن الصوت مفهوماً للجميع في البداية، فبدأت هيلين صراعها من أجل تحسين النطق واللفظ، وأخذت تجهد نفسها بإعادة الكلمات والجمل طوال ساعات مستخدمة أصابعها لالتقاط اهتزازات حنجرة المدرسة وحركة لسانها وشفتيها تعابير وجهها أثناء الحديث.
وتحسن لفظها وازداد وضوحاً عاماً بعد عام فيما يعد من أعظم الانجازات الفردية في تاريخ تريبة وتأهيل المعوقين.
ولقد أتقنت هيلين الكتابة وكان خطها جميلاً مرتباً.
ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي كانت تلقى وأمكنها أن تتخرج من الجامعة عام 1904م حاصلة على بكالوريوس علوم في سن الرابعة والعشرين.
ذاعت شهرة هيلين كيلر فراحت تنهال عليها الطلبات لالقاء المحاضرات وكتابة المقالات في الصحف والمجلات.
بعد تخرجها من الجامعة عزمت هيلين على تكريس كل جهودها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم وكتابة الكتب ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.
وفي أوقات فراغها كانت هيلين تخيط وتطرز وتقرأ كثيراً، وأمكنها أن تتعلم السباحة والغوص وقيادة المركبة ذات الحصانين.
ثم دخلت في كلية (رد كليف) لدراسة العلوم العليا فدرست النحو وآداب اللغة الانجليزية، كما درست اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية واليونانية.
ثم قفزت قفزة هائلة بحصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة.
في الثلاثينات من القرن قامت هيلين بجولات متكررة في مختلف أرجاء العالم في رحلة دعائية لصالح المعوقين للحديث عنهم وجمع الأموال اللازمة لمساعدتهم، كما عملت على إنشاء كلية لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وراحت الدرجات الفخرية والأوسمة تتدفق عليها من مختلف البلدان.
ألفت هيلين كتابين، وكانت وفاتها عام 1968م عن ثمانية وثمانين عاماً.
التعليق:
هذه الحياة مثال رائع عن أهمية الإرادة والتأهيل، والتأهيل هو العمود الفقري لتدبير المعاقين، فبالنسبة للصم والبكم فإن التأهيل هو الذي يسمح بإعادة الاتصال مع العالم الخارجي سواءً بالفهم أو المخاطبة ويبقى هو التدبير الرئيسي لهؤلاء المصابين.
ونحن في بلدنا أصبحنا على مستوى عظيم في ناحية التشخيص الدقيق لآفات نقص السمع المختلفة وللأعمار كلها، ولكننا لانزال على خط البداية في مستوى التأهيل ولم نخط بعد أي خطوة عملية حقيقية في هذا المجال، فالأمر يحتاج إلى عزيمة صادقة وحب وحماس لهذا الأمر إضافة إلى دعم مادي بالمدارس الداخلية والأساتذة المدربين المؤهلين والأجهزة المتطورة الكافية للأعداد الكبيرة من الصم البكم الموزعين في أرجاء بلادنا.
إن حالة هيلين كيلر ليست حالة وحيدة بل يذكر التاريخ حالات عديدة مماثلة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الروسية أولغا سكورو كو دوفا وقد سبق أن صدر عن وزارة الثقافة كتاب عن حياتها.