هي قصة حقيقية حدثت معي من زمان حبيت انشرا وآخد رأيكن بهالجنان
قريتنا صغيرة متواضعة لم يكن فيها مدرسة إعدادية كنا نكمل تعليمنا في القرية المجاورة والتي تبعد عن قريتنا بحدود خمسة كيلومترات والطريق بين القريتين طريق زراعي غير معبد ويمر عبر غابة كثيفة من أشجار السنديان والبلوط المتربعة على كتف أحد الجبال وتحيط به أشجار الزيتون من كل جانب ويعبر وادٍ فيه مسيل ماء شتوي يسيل وبغزارة أغلب أيام الشتاء نظراً لغزارة الأمطار في تلك الأيام فيشكل النهر عائقاً كبيرا لمتابعة الطريق خاصة وأنه لا يوجد عليه جسر
كنا نقطع المسافة بين القريتين سيراً على الأقدام يومياً من أول العام الدراسي وعند بدء موسم الأمطار كنا نستأجر غرفاً في القرية المجاورة حتى منتصف شهر آذار ونكمل بقية العام الدراسي سيراً على الأقدام ذهابا ًوإياباً كالعادة فلم تكن وسائل النقل متوفرة
كنت في الصف الأول الإعدادي 00استأجرت غرفة مع أثنين من زملائي في تلك القرية ومساء كل يوم أحد نذهب من قريتنا حاملين المئونة الأسبوعية من خبز حيث لم تكن الأفران متوفرة وزيت وزيتون وشنكليش وبيض بلدي وبرغل 000الخ
هذه المؤن يجب أن تكفينا لنهاية الأسبوع حيث نعود بنهاية الدوام من يوم السبت إلى قريتنا لنقضي العطلة الأسبوعية فيها ونعود مزودين بالمؤن والخرجية التي كانت لا تتجاوز الليرتان أسبوعيا في حدها الأعلى ومن الصدف أن نرى أهلنا في وسط الأسبوع ولا من يشرف على دراستنا أو تدريسنا 000ونعتمد على أنفسنا في تحضير الطعام
صدف أن كان هناك عطلة رسمية في يوم جمعة من شهر كانون الأول للعام 1972 وعدنا إلى القرية يوم الخميس ظهرا وكالعادة فاليوم الدوام بين يومين عطلة لا أحد يلتزم به فالسبت دوام ويوم الأحد عطلة المدارس الأسبوعية في منطقتنا
قرر زملائي عدم الذهاب إلى المدرسة يوم السبت 00وكوني أنا وأحد زملائي نحب النظام أو بالأحرى /نخاف من قتلة مرتبة من والدينا/إذا لم نذهب إلى المدرسة
فقررنا أو/ أجبرنا /على الذهاب في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم السبت وكالعادة نحمل معنا المؤن المعتادة لكامل الأسبوع
والذي حدث بعد خروجنا من القرية بقليل بدأ المطر يهطل بغزارة لا مثيل لها فابتلت ملابسنا وكل ما نحمل معنا بالماء وتلطخت ثيابنا بالوحل
عند وصولنا إلى الغرفة لم نستطع الذهاب إلى المدرسة كوننا لا نملك البديل عن الملابس المبللة 000ولا نملك مدفئة في الغرفة لنتدفأ ونجفف ملابسنا عليها
قمنا بإشعال ببور الكاز ووضع قطعة حديد عليه كي تنشر الحرارة الكافية لتجفيف ملابسنا و دب القليل من الدفء في أجسادنا 000
وكون يوم الأحد عطلة رسمية في مدرستنا قررت أنا العودة وحيداً إلى القرية بعد أن جفت ملابسي وتوقف هطول المطر الذي استمر لأكثر من ست ساعات متواصلة حاول زميلي إقناعي بعدم العودة كون الجو غير مستقر واقترب النهار من نهايته فلم أقتنع 000
خرجت من الغرفة متوجهاً باتجاه قريتنا 000لحظات وصادفني أحد أقربائنا في تلك القرية سألني :
- وين بالسلامة 00؟
- ع الضيعة 00
-وين بدك تروح00 رح تغيب الشمس والنهر طايف شو أنت مجنون 00!!؟
- لا 00ماني مجنون 00 بس بدي روح
- تعا 00تعا 00 بلا علاك مشي معي عل البيت
- ما بدي 00بدي روح ع بيتنا 00
- إييييه00 تعا لهون 000
وأمسك بي وكونه يكبرني سناً وحجماً وأقوى مني 00حملني على كتفه واتجه إلى منزله
وأنا أصرخ محاولاً الإفلات فلم أستطع وعند دخولنا منزلهم حاولت الهروب لم أتمكن
واجتمع أهله وأخوته حولي محاولين إقناعي بالبقاء وإغرائي بما لذََّ وطاب من الطعام والشراب000 فاستمريت في عنادي المعهود
مرَّت حوالي الساعة من الجدل والنقاش ولم أقتنع كل ما كنت أفكر به هو الهروب منهم فالوقت يسرقني 000
وأخيراً لجأت إلى حيلة بأن أتظاهر بالاقتناع وأتحين الفرصة الملائمة للهروب
وكان العرض المناسب بأن أجلس مع الشباب في الغرفة الخاصة بهم وهي منفردة عن البيت قليلا000
خرجت معهم مقتنعاً بالفكرة فالمهم لديّ هو فك الحصار المفروض عليَّ من كل العائلة
وما إن أصبحت خارج البيت 000 وكغزال أفلت من بين أنياب نمر مفترس بدأت أعدو كالريح باتجاه القرية حاولوا اللحاق بي فلم يتمكنوا 000
تبعني أحدهم محاولاً أن يمسك بي 000بدأت أرجمه بالحجارة وأركض فيئس من الإمساك بي وعاد خائباً000
أما أنا فبدأت أسير باتجاه قريتي مزهواً وكأنني حققت نصراً عظيماً 000
على أطراف تلك القرية التقيت برجل كبير في السن يعرفني ويعرف أهلي سألني :
- وين رايح يا جدي 00؟
- ع الضيعة 00
- ع الضيعة 00؟ ما نك شايف الدني رح تعتِّم والسما سودا والنهر بيشيل جمل شو أهلك مستغنايين عنك ولا أنت ما فيك عقل 00؟ تعا ياجدي رجاع معي رجاع
ما بدي 00بدي روح ع بيتنا
- شو أنت مجنون ولا مهبول تعا لهون 00!! وحاول الاقتراب مني ومسكي هربت منه وبدأت أركض 000
- تعا يا مجنون بياخدك النهر 00بياكلك الضبع بالحرش000
- ماااااااني راجع 000
أجبته وأنا أركض لكن كلماته دبَّت في نفسي الخوف وبدأت أسير ببطء
فعلاً الشمس غابت تقريباً وصوت النهر يطرب الوادي نظرت إلى الأفق وإذا بسحابة وكأنها مارد جبَّار خرج لتوه من خلف ذلك الجبل وسينقض عليَّ
لكنني استمريت بعنادي وتابعت المسير لكن بخطى أثقل وصلت ضفة النهر في أسفل الوادي نظرت بتلك المياه المعكَّرة التي تتقلَّب وكأنها تتحضر لمعركة حامية الوطيس لكن بمخيلتي الصغيرة لم أفكر بمدى خطورتها 000
وتذكرت حكايات جدي عن كيفية قطع الأنهر كان يقول لنا :
**يا جدي بس بدك تقطع النهر وكانت الطوفة قوية اختار اعرض مكان بالنهر هونيك بتكون قوة المي اخف لأنَّا موزعة على عرض النهر 000وبس تمشي بالنهر لا ترفع رجلك عن الأرض 00سحبا سحب حتى ما يختل توازنك ويجرفك التيار *
وبدون تفكير بالعواقب وبعد أن شحنتني تلك الكلمات بالقوة بدأت بعبور النهر الذي كادت مياهه أن تجرفني حيث غمرتني إلى منتصف جسدي 000
بعد أن وصلت الضفة الثانية وبينما كنت أعصر ملابسي من المياه نظرت خلفي ودبَّ الخوف والرعب في أوصالي من منظر السيل الهادر في النهر وهو يسير جارفاً كل ما يعترض طريقه 000
فكيف نجوت من موت محتَّم 00؟ لا أعلم حتى هذه اللحظة
هنا لم يعد ضوء النهار كافيا لأن أرى أمامي أكثر من بضعة أمتار000
وبعد أن استعدت أنفاسي وحاولت متابعة المسير محارباً خوفي القاتل تذكرت الضباع ففي هذا الوادي يوجد ضباع خاصة وأنني في بداية الجزء من الطريق الذي يعبر الحرش باتجاه قمة الجبل وقد حذََّرني ذلك الرجل ولم آبه لكلامه 000
ازددت خوفا ًورعباً00 لكن ما العمل فالنهر من ورائي والحرش وضباعه من أمامي ويجب أن أسرع في المسير قبل حلول الظلام الدامس 000
هنا أيضاً تذكرت ما كنت أسمعه من قصص أن الضباع لا تقترب ممن لايخاف منها والتعبير عن عدم الخوف هو إصدار أصوات قوية كالغناء والصراخ
حاولت الغناء ** عللَّه تعود بهجتنا والفرا000وصوتي راح 00يامرسال يلّ000 لا محالة
فالغناء والصراخ مستحيل فالرعب والخوف ذهب بي وبصوتي 000
بدأت أصلي بداخلي وحاولت إصدار أية أصوات تشجعني وتؤنس وحشتي فلم أستطع فحملت حجرين بيديّ وبأت أطرقهما ببعض علَّها تخيف الضباع التي رسمها الخوف في نفسي وستثب عليَّ في أية لحظة 000
كنت أسير ولا أنظر حولي من شدة الخوف أحاول الإسراع فتخونني قدماي أتخيل أن الضباع ستنهشني من الخلف فالطريق يمتد في قلب الحرش لمسافة لا تتجاوز الخمسمائة متر مرَّت عليَّ وكأنها دهر000
في نهاية الحرش وعند وصولي إلى قمة الجبل حاولت الغناء على أمل أن أستجمع قواي وأشجع نفسي بنفسي فلم أستطع حتى البكاء خانني
وفجأة ومن إحدى الأكمات المتواجدة بجانب الطريق صدر صوت ضجة قصفت أوصالي ووقعت أرضاً وعرفت أنها النهاية فهذه الضباع هجمت 000
ولمحت شيئا طار في السماء 00وإذا به طير بري يدعي // جيجة الحرش// هرب خوفا مني وهو لو علم بحالي لضحك وسخر مني 000
وهنا حاولت استرجاع قوتي كوني تجاوزت المرحلة الصعبة من الطريق واحتمال النجاة بنفسي أصبح أكبر خاصة وأنني تخلصت من ذلك الحرش اللعين والطريق يتابع في أعلى الجبل ولا يوجد أحراش سوى غابات الزيتون المترامية على أطرافه وفي وسطه برك الماء الموحلة التي سأضطر للخوض فيها
لكنَّ الظلمة حلَّت ولم أعد أرى معالم الطريق الموحشة والوعرة أساساً إلا من خلال ضوء القمر الذي يسطع أحياناً من بين تلك الغيوم الداكنة 000
كنت أحاول الإسراع في المسير دون جدوى فالانزلاق في الوحل وبرك الماء الموحلة في وسط الطريق والتعب والبرد القارص الذي تسرب إلى جسدي المنهك أصلاً خاصة وأن ملابسي مبتلة بالماء من جرَّاء الخوض في مياه النهر والخوف والرعب واليأس جميع هذه الأمور حطَّمت معنوياتي وسيطرت عليَّ وكلما تعثرت بحجر وأصدر صوتاً أتخيل الضباع خلفي
والاستسلام لأي شيء هو الفعل الوحيد الذي أستطيعه 000
ما كان يعزِّيني قليلاً أنني قطعت نصف المسافة الأصعب بين القريتين 0000
تابعت مسيري منهكاً وكلما اقتربت كان الأمل يزداد قليلا 000إلى أن بدأت أسمع نباح الكلاب في قريتنا وهذا ما أعطاني دفعاً معنوياً كبيراً فهناك من يواسيني ولو كان صوت نباح الكلاب البعيد000
دقائق قليلة وأصبح على مشارف القرية وكل ما أتمناه أن أعبر عن حالتي وأواسي نفسي حتى ولو بالبكاء فربما تسمعني الكلاب وتغيثني فلم أستطع 000
عند الوصول إلى مدخل القرية والمسافة لا تبعدني عن أقرب منزل أكثر من مائتي متر يوجد بركة ماء مليئة بالوحل في منتصف الطريق وبمنتصف هذه البركة رأيت جسماً أسوداً يتحرك وبصيص يخرج من عينيه قلت في نفسي هذه هي إحدى الضباع قطعت لي الطريق وستمنعني من الوصول إلى داخل القرية 000لكن معنوياتي ازدادت وأصبحت أقوى مع نباح الكلاب التي أخذت تقترب مني قليلاً 000
ففكرت بالانتقام من هذا الوحش وقمت بعملية التفاف فتسلقت الجدار الذي يفصل الطريق عن الأرض المجاورة من الأعلى بحيث أستطيع رميه بحجر كبير حملته في يدي 000 واقتربت ببطء نحوه وإذا به كيس نايلون علق في هذا الوحل وضوء القمر ينعكس منه والريح تتلاعب به 00وانتقمت منه شرَّ انتقام كي أرفع معنوياتي وأشعر بالنصر قليلا ولو من هذا الكيس الفارغ 000
تابعت المسير أصبحت ضمن المنازل ذهب الخوف والتعب واليأس
لحظات وكنت في مدخل منزلنا لم أشاهده بهذا الجمال في حياتي 000
قرعت الباب بنشوة المنتصر000
صوت من الداخل تفضل 000
فتحت الباب ودخلت كان في المنزل والدي وخالي رحمهما الله ووالدتي وأخوتي
تفاجأ الجميع بدخولي وبمنظري 00ثيابي مبللة ومليئة بالوحل والإرهاق والتعب بادٍ على وجهي وقف والدي واقترب مني وسألني :
- مع مين جيت 00؟ //أتيت//
- وبمعنويات عالية أجبت 000جيت حالي
- شو 00لحالك وبهاليل 00!!
ولاحظت الغضب والشفقة في عينيه 00فلم أجب بشيء
- مين قطعك النهر 00؟ !!
- قطعتوا لوحدي00
- يا مجنون00 ما فيك مخ 00مابتفكر لو سحبتك المي شو صار فيك وفينا000!!؟
طرقت رأسي في الأرض ولم أجيب ولا بحرف واحد
- شو باك ما ترد 00 خرست ما بقى تعرف تحكي000
ومنين يوجعك كف رايح 0000كف جاي 000 حتى تنه نهت
ولولا تدخل خالي يا ساتر شو صار000
دخلت إلى الحمام والدموع تسبقني 000 ووالدتي تقول لي خرجك بتستاهل 000
وإخوتي يضحكون عليَّ من بعيد 000
طلعت من الحمام الله ريتو نعماً 000 وعاد والدي لاستكمال التحقيق وطرح الأسئلة التي لم أجد لها جواب حينها ولم أعرف لماذا طرحها
- كيف بترمي حالك بالنهر 00؟
- ليش مارحت لعند حدا من قرايبينّا وضليت عندن لبكرا 00؟
ليش ماضليت بغرفتك 0000؟
- ليش ما أجيت بكير قبل الليل 00؟ ليش 00؟ ليش 00؟ليش 00؟
طبعاً ليس لديَّ إجابات مقنعة وهل سأقول له أنني هربت من أقاربنا بعد أن أخذوني إلى منزلهم 00فهذه الطامة الكبرى
على كل حال لم أنم قبل أن يودعني بقتلة مرتبة وهكذا كان 000
بس شو قتلة000 آآآآآآخ ما بنساها بعمري
يا هل ترى بستاهل هيك قتلة 000؟ ولا أنا مظلوم 000!!!؟