[نهضة خاطفة ... بقلم : باسم الأفندي
مفاهيم جديدة تتشابك في العقول تتشابه باللفظ و تختلف بنقل المعنى المراد منه و قد يكون تتالي نسيجها الحضاري هو دليل للمتأخرين للحاق بركب المتقدمين ... فمصطلحات مثل التحديث، الحداثة و النهضة هي مصطلحات متلازمة التحقيق و تستوجب التوفيق للوصول للغاية المنشودة من ركوب قطار التقدم بعيداً عن محطة الركود ...إن التحديث صيرورة قد تستمر مئات السنين، وبالتالي لا تقود أبداً إلى حداثة ما لم تكتمل حلقات الحداثة، فالحداثة (حسبما أفهم) تقاس على مراحل، عندما تنجز المرحلة الأولى تنتقل إلى مرحلة ثانية فتنجز، فننتقل لمرحلة ثالثة، و أما النهضة فهي نقلة لمواجهة الذات بإشكالاتها و نقائصها و محاسنها و المضي قدماً بمؤازرة أكتاف تتسارع فيها الخطى باتجاه هدف واحد هو التقدم التقني و الحضاري الأخلاقي بكافة أشكاله .....
لابد لكل بلدِ أن يقوم بصنع نهضته بنفسه ولكن لا يجب عليه أن ينطلق من الصفر ليبدأ العمل بدون هدف محدد , يجب أن يستفيد ويقتبس من كل الشعوب التي نهضت قبله ويبحث عن أسرار هذا التقدم الحقيقية في اللب ويترك القشور لأصحابه . لا يوجد وصفات وقوالب جاهزة للنهوض , فكل بلد يكّون ويكتب وصفته بنفسه بعد الاستفادة من إيجابيات وسلبيات الآخرين , ويبدأ بالعمل الجاد وتكريس كل ما يمكن من إمكانيات في سبيل هدف واحد وهو النهوض .
عندما تُذكر كلمة تطور – تقدم - نهضة – معجزة في العصر الحديث . يتبادر للذهن دولة اليابان واليابانيون الذين أدمنوا التفوق وما راقبوا مجالاً من مجالات العلم إلا وأتقنوه وتفوقوا على أصحابه .و اسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أقوم باستعراض بعض من النقلات النوعية في نهضة اليابان الواثقة الخطى باتجاه الأمام .
بدأت نهضة اليابان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في عهد الإمبراطور ميجي ويمكن بداية ً الحديث عن هذه النهضة (إلى ما قبل تسلم الإمبراطور ميجي الحكم) من إنذار بيري Perry المرسل من الولايات المتحدة عن طريق ربع وحدات أسطولها البحري بتاريخ 14 / تموز / 1853 والذي أسماه اليابانيون ((إنذار بيري وسفنه السوداء أو The American Black Ships )) والرامي لفتح الموانئ اليابانية أمام الملاحة الدولية ( سلماً أو بالقوة ) ومن ثم توقيع اتفاقيات مجحفة ومذلة بحق اليابانيين بدأت (بإجبار) اليابان بتوقيع اتفاقية - كانجوا Kanagawa - ( للصداقة ) مع الولايات المتحدة في 31 آذار 1854 والتي أدت إلى توقيع اتفاقيات مماثلة مع بقية الدول أوربية , وكانت أخطر نقاط هذه الاتفاقيات البند الذي ينص رفض الأجانب المثول أمام المحاكم اليابانية وإصرارهم على أن تتم محاكمة هؤلاء الأجانب أما قنصليات بلادهم وبالاستناد فقط إلى قوانين الدولة التي ينتمون إليها , واعتبر اليابانيون هذا البند انتقاصا لسيادتهم لأنه كان يتعامل مع اليابان كما لو أنها خاضعة للاحتلال كالصين والدول الأخرى المحتلة من قبل الدول الأوربية . لكن هنا أدرك اليابانيون أنهم ضعفاء أمام القوة العسكرية الغربية المتفوقة علميا وتكنولوجيا .
فسعى القادة اليابانيين إلى بناء دولة مركزية يابانية قوية على أساس التقاليد الموروثة , وتمت صياغة الهدف الرئيسي للإصلاح بشعار (( بلد غني وجيش قوي - military Arich country and strong - )) أو (( جيش قوي ليابان غنية )) ووضع هذا الشعار حيز التطبيق الفعلي فقد تم تسخير الموارد الاقتصادية اليابانية لبناء جيش قوي في فترة زمنية قصيرة جدا بهدف حماية اليابانيين من أي اعتداء خارجي . هذه الحاجة التي بدت موضوعية بسبب الخوف من تدخل غربي مباشر في اليابان واحتلال أراضيها كما حدث مع الدول المجاورة لليابان . فسعت اليابان لامتلاك جيش قوي وتقدم علمي متميز لتوازي الغرب في قوته العسكرية والاقتصادية
في عام 1867 تولى الإمبراطور الفتي موتسوهيتو MUTSUHITO الحكم وسمي ولقب باسم الإمبراطور ميجي MEIJI أي المصلح أو صاحب السلطة العادل . والذي بدأ بحركة تطوير وتحديث اليابان
قام الإمبراطور بإرسال بعثة إلى الولايات المتحدة وأوروبا (عرفت بـبعثة إيواكورا). مابين سنوات 1871 و 1873 م
كان الهدف من هذه البعثة التفاوض مع الدول الأوربية وأمريكا بشأن المعاهدات غير العادلة التي عقدتها اليابان معهم وتفقد المؤسسات الغربية والاطلاع على أحدث ما توصلت إليه في عالم التقنية. أدركت هذه البعثة حقيقة واحدة وهي ( إذا أراد اليابانيون أن ينالوا احترام الغرب فعليهم أن ينتزعوه انتزاعاً ), فلم تفلح مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة والدول الأوربية في تعديل المعاهدات المذلة بحق اليابان , فاليابان الآن دولة ضعيفة عسكريا واقتصاديا وعلمياً .
ولهذا تابع الإمبراطور ميجي بإرسال البعثات إلى كل الدول المتطورة آنذاك حتى أن غالبية قادة الإصلاح وعلى رأسهم الإمبراطور ميجي نفسه قاموا برحلات استطلاعية إلى الدول الأوربية للاطلاع عن كثب على أنظمتها وإدارتها وطرق الإنتاج والتسويق فيها
ثم تم بعد ذلك إرسال العلماء اليابانيين ليقتبسوا ما استطاعوا من العلوم في الغرب واختير العلماء المرسلين إلى هذه البعثات بعناية فائقة وفقاً لاختصاصاتهم ولتبحرهم في العلوم ولتفوقهم بها , وحرص اليابانيون على أن لا يستعيروا إلا الأفضل من كل بلد فذهبوا إلى إنكلترة لدراسة الملاحة وإلى ألمانيا لتعلم الفنون العسكرية والطب وإلى فرنسا للتدرب على الإدارة المحلية والحقوق وإلى الولايات المتحدة ليكتسبوا الاحترافية بالطرائق التجارية . فما كان العالم بالنسبة لهم إلا مدرسة كبيرة وما عليهم إلا أن يختاروا العلم الذي يريدونه وان يختاروا الأستاذ الأفضل . وفضلوا تعلم التقنية الغربية كي لا يخضعوا للتبعية للغرب في حال أنهم استوردا التكنولوجيا والتقنية بدون تعلمها ..
يذكر أن الإمبراطور ميجي كان يتوجه بخطاب إلى طلبة البعثات العلمية الذاهبين للخارج ويقول لهم (( أريد كل العلم الغربي, أريدكم أن تفهموا كل شيء, وأن تنقلوه إلى اليابان لكي نستفيد منه, ونبني عليه نهضتنا المقبلة, فينبغي لنا أن نلحق بهؤلاء الأوربيين المغرورين بأنفسهم, والذين يحتقرون الآسيويين ويعتبرونهم همجًا وأنصاف متحضرين ))
لم يكتف الإمبراطور ميجي بإرسال البعثات فكان يريد نتيجة سريعة ونهضة خاطفة فبدأ بجلب العديد من الخبراء والمهندسين , بلغ عددهم حوالي الـ3000 حتى سنة 1890 م- من مختلف البلدان الغربية للمساعدة في تحديث البلاد ولم يتردد بتقديم أفضل الأجور لهم حتى لو اقتطع هذا من موارد اليابان المالية الضعيفة .
مع بدء عودة الموفدين من الطلاب والعلماء اليابانيين واستكمال تشييد وتحديث المنشآت والمؤسسات الوطنية استوفت اليابان حاجتها للخبرات فتوقف استقدامهم حوالي عام 1890 م.
كان لابد من القيام بهذه النهضة من تطوير القطاعات الحساسة في اليابان , القطاعات التي تعتبر الركيزة وحجر الأساس لتطور كل دولة : التعليم ،الصناعة ، الاقتصاد ، الجيش .... السياسة والدستور
تحديث نظام التعليم :
لم يفت اليابانيون أهمية دور التعليم في بناء دولتهم الحديثة إذ أن رفع مستوى التعليم للجماهير هو شرط استمرار عمل التحديث فالجيش والبحرية يحتاجان إلى رجال متعلمين قادرين على تعلم مبادئ تقنية الغرب... والصناعة بحاجة ليد عاملة مؤهلة لتساعدهم في دعم اقتصاد البلاد
فأصبح التعليم إجباريا على الجميع، صبياناً وبنات، منذ العام 1868 م. ، فأسس ميجي عام (1871) وزارة التربية لإدارة شؤون التربية والتعليم مركزيا وصدر في عام (1872) القانون الأساسي للتعليم في اليابان واستحدث اليابانيون سنة 1872 م نظاما تعليميا جديدا مستوحى من النظامين الفرنسي والأمريكي , وكان هذا العام من عهد ميجي عاما تاريخيا وبداية حقيقة لتطور التربية والتعليم في اليابان الحديثة. وقد أكد هذا القانون بصورة قوية على الإعداد للعمل المبرمج , وكان يدعو إلى إلزامية تعليم للناس جميعا, وقد أدى القانون الى إنشاء (53760) مدرسة ابتدائية في أرجاء البلاد لتقديم تعليم أولي حديث وإلزامي لجميع الأطفال من عمر السادسة وحتى الرابعة عشرة, وإنشاء (256) مدرسة متوسطة و ثماني جامعات من أجل إتاحة فرصة التعليم أمام الشعب الياباني جميعه, وقد استهدفت هذه الخطة أيضاً تقسيم اليابان إلى ثماني مقاطعات جامعية تحوي الجامعات الثماني( جامعة طوكيو Tokyo –جامعة كيوتو kyoto– جامعة توهوكو Tohoku –جلمعة سانداي Sendai– جامعة فوكواوكا Fukuoka– جامعة كيوشو Kyushu – جامعة سابورو Sapporo- جامعة هوكايدو Hokkaido - ), وتقسم كل مقاطعة إلى (32) إقليما تحتوي على المدارس المتوسطة, وتنقسم كل إقليم بدوره إلى (210) مناطق للمدارس الابتدائية.
وقد أنشئ عام (1886) ((نظام التعليم المركزي)) وصدر تشريعات مختلفة تتعلق بمدارس تتفق مع المرحلة التي كان التعليم الياباني يستعد للانتقال إليها, ففي هذه الفترة كانت هناك محاولات لدمج الخبرة اليابانية مع معطيات الحضارة الغربية في أمريكا. وتم إقرار مرسوم إمبراطوري، يتضمن إدماج عبادة الإمبراطور والآلهات الشنتوية ضمن المناهج الدراسية الوطنية. وادخلت مقرر التربية الأخلاقية بأسم "شوشن Shushin[/size]