ما أطيب و أفضل ما تذوقته في حياتك ...؟
قد لا يهتم البعض بالإجابة عن مثل هذا السؤال ، و في الواقع فإن هناك الكثير من الأسئلة التي قد لا تجد لها إجابة أو ضرورة في الإجابة عليها ، مثل ما هو اللون المفضل لديك ، و ما هي أغنيتك المفضلة ، و ما هو فيلمك المفضل ، و غيرها .. إلا أن معظمنا يعرف ما هي الوجبة المفضلة لديه ، و هذا محفور في ذاكرته و ذاكرة أمه ، و من ثم في ذاكرة زوجه ، و في ذاكرتي أيضاً ، و ذاكرة كافة الأطباء .
إن أفضل و أطيب وجبة قد يتذوقها و يتناولها الإنسان في حياته كلها هي لبن أمه أثناء فترة الرضاعة ، و لاسيما في الأشهر الستة الأولى من العمر ، و أخص بالذكر منها الوجبة الأولى و التي يتناولها بدءاً من العمر صفر و حتى أسبوعين ، و أحياناً حتى عمر الشهرين أو الثلاثة ، و هذا ما عنيت به " اللبأ " .
فقبل تاريخ الولادة كان الجنين يحصل على كامل غذائه عبر سرته و من خلال الحبل السري واصلاً إليه من والدته الحامل ، و هو و إن كان يحصل على غذائه الكامل و الأفضل بالنسبة إليه إلا أنه لا يتذوقه بلسانه و لا يشعر بنكهته ، و غني عن القول أن الطعام يحمل فيما يحمل معه المذاق الطيب و النكهة اللذيذة ، و هذا ما جبل الله عليه طبائع الأحياء للاستمرار و البقاء ، فلو لم يكن الطعام طيباً و لذيذاً لربما لم يجد الإنسان نفسه مضطراً لتحمل مغبة العناء و الشقاء للحصول عليه ، و لما طور وسائل الطهي و تفانين المطابخ ، فاللذة و النكهة الطيبة هما الغلاف الذي يجمل الضرورة و الحاجة إلى الطعام ، و هذا من أجل حفظ النوع و البقاء إلى أن يشاء الله تعالى .
و منذ حوالي الأسبوع السابع عشر من الحياة الجنينية يبدأ الجنين بتعليم نفسه منعكسات المص و البلع و التي تهدف أساسًا إلى تعليمه الرضاعة بعد أن يولد ، و في حوالي الأسبوع 26-28 يتم الجنين تعلمه هذا و يشاهد بتقنيات التصوير المختلفة واضعاً إبهامه في فمه و منهمكاً في عملية المص و البلع اللتين أتقنهما في هذه السن إلى حد جيد .
و من صفات الوليد الطبيعي التام الحمل الكامل النضج أن يكون هذان المنعكسان تامين لديه و فاعلين بالشكل الطبيعي ، كما أن من صفات الطفل الخديج الذي يولد قبل أوانه ألا يكون هذان المنعكسان واضحي المعالم و التطور أو تامي الفعالية لديه ، و لهذا فقد يواجه العديد من المشاكل أثناء الرضاعة بعد أن يولد ، و قد يضطر الأمر إلى أن تتم تغذيته بالأنبوب الأنفي المعدي ، أـو حتى بالتغذية عن طريق الوريد .
لا شيء يعدل أن تحمل الأم وليدها و تضمه بحنان إلى صدرها و تمسح على جبينه الصغير ثم تلقمه حلمة ثديها ليتدفق منها في فيهه الصغير ذلك الطعام الرباني، في وجبته الأولى عن طريق الفم، فيتغلغل اللبأ في كامل فمه، و يثير إحساسات الذوق لديه ، فيهدأ من بعد بكائه الذي استقبل به هذه الدنيا ، و يرتاح من بعد مجهود عبوره المضني عبر ممر الولادة و البرزخ الذي نقله من حياته الرحمية السابقة إلى حياته الحالية الجديدة .
حتاج الطفل في أيامه الأولى فيما يحتاج إليه إلى حوالي 90-120 كيلو كالوري لكل كيلوغرام من وزنه ، و لأن حليب الأم يحتوي على 67 كيلو كالوري في كل 100 ميلليليتر منه ، فهذا يعني أن الطفل يحتاج وسطياً إلى حوالي 200 - 250 ميلليليتر يومياً في الأيام الأولى من الحياة و هذا ما يعادل حوالي رضعة كل 2-3 ساعات لفترة حوالي 5-10 دقائق من كل ثدي في كل مرة ، فيحصل عل جل احتياجاته اليومية من السوائل و الطاقة و الأملاح و البروتين ، و أشير هنا إلى أن الأمر لو تجاوزت هذه المقادير بحكمة و انتباه فهذا أمر لا بأس فيه ، لكن لا يفضل أن تزيد مدة الرضاعة عن 15-20 دقيقة بالنسبة لكل ثدي بشكل عام ، أما لدى حديثي الولادة فإن فترة الدقائق العشرة من كل ثدي كافية ، و إن الزيادة يمكن أن تضر بتغذية الطفل و تجعله يتقيأ .
و لا بد أن تتعلم الأم كيف ترضع ابنها بالشكل الفعال و الجيد ، و ذلك طيلة فترة إرضاعه ، و أخص بالذكر الأمهات الحديثات أو قليلات الخبرة ، بحيث لا بد أن يتم احتضان الطفل في حجر أمه و من ثم يميل أعلى جذعه و رأسه إلى الأعلى بشكل مناسب ، و يقرب رأسه من حلمة الثدي الذي تود الأم أن ترضعه منه ، و من ثم تداعب خده بالحلمة أو بإصبعها بحيث تكون إشارة البدء للطفل لأن يتوجه برأسه إلى اتجاه الحلمة و يلتقمها و يبدأ بالرضاعة ، و لا بد أن تحرص الأم على ألا يكون طفلها مجهداً أثناء الرضاعة ، و ألا يدخل إلى جوفه الكثير من الهواء ، و أن تبقي عينيها على وليدها حتى تمضي فترة الدقائق العشرة أو الخمسة المخصصة لهذا الثدي ، و من ثم تنقله إن لزم الأمر إلى الثدي الآخر و ذلك بأن تدخل إصبعها النظيفة في فم الطفل و تفصل الحلمة عنه و من ثم تسحب رأسه بلطف . إن قترة الدقائق الخمسة أو العشرة لكل ثدي كل حوالي 2-4 ساعات في اليوم كافية لأن يحصل الطفل في هذه السن على حاجته و مبتغاه من الطعام و الغذاء و المناعة و الحنان ، و ينبغي التذكير على ضرورة أن يحمل الطفل بعد انتهاء وجبته فيسند رأسه إلى كتف الأم بحيث ينظر إلى جهة الخلف بالنسبة لوالدته و يربت على ظهره تربيتاً خفيفاً إلى أن يتجشأ ، و في ذلك فائدة بأن يخرج الهواء الذي دخل إلى جوف الطفل أثناء الرضاعة و الذي يمكن أن يسبب له الشعور بالانزعاج و الثقل و المغص أيضاً .
لا بد أن تنظف الأم الحلمة بعد الرضاعة ، و يتم ذلك بأن تغسل الحلمة بقطعة نظيفة من الشاش المعالج بالماء النظيفة المغلية و المدفأة ، أي بعد أن تنخفض درجة حرارتها بحيث تصبح غير محرقة أو مؤذية ، و يمتنع عن استخدام الكحول أو المواد الأخرى ، و يمكن استخدام بعض أنواع الصوابين الخاصة لهذا الغرض إن لزم الأمر .
إن الإرضاع الطبيعي ليس فقط الوجبة الأفضل و الألذ ، بل إنها أيضاً الوجبة الأكثر حماية و مناعة ، فهي تقدم للطفل حاجزاً ميكانيكياً و كيميائياً و مناعياً واقياً للطفل طيلة فترة الأشهر الستة من الكثير من الأمراض ، و تجنبه خوض تجارب قد تكون قاسية عليه في هذه الفترة من الحياة ، و تزيد ارتباطه بأمه ، و تزيد من تعلق الأم بوليدها ، كيف لا ن و إن منعكس الإدرار عند الوالدة هو منعكس حسي و شرطي في آن معاً ، بحيث أن الأم يسيل حليبها أحياناً بمجرد تذكر طفلها أو بمجرد أن يحين موعد الرضاعة ، حتى قبل أن يرضع الطفل .
بل و أكثر من ذلك ، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أن جسم الأم يقوم بإفراز مجموعة من المركبات الكيميائية التي تسمى الفيرمونات ، و ذلك بشكل كبير أثناء إرضاعها لوليدها ، و هذه الفيرمونات تتمتع بخاصية التطاير و الانتشار بنسبة معينة ، أي أنها يمكن أن تنتقل إلى الإناث الأخريات الموجودات في محيط الأم المرضعة ، علاوة على وجودها أصلاً في جسم الأمر المرضع و انتقالها إليه عبر الانتشار ، و تقوم هذه الفيرمونات بالعديد من الوظائف ، فهي من نوع الكيماويات الجنسية إن صح التعبير ، و التي تزيد من استدعاء الزوج إلى فراش الزوجية ، كما أنها تزيد من الرغبة لدى الزوجة و تشعرها بالرضا بشكل أفضل بكثير بعد الممارسة .
لقد تم التوصل إلى هذه النتائج بعد دراسة حديثة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر من 500 امرأة ، و تبين أن أكثر من 70% من هؤلاء النسوة شعرن بمتعة أكبر أثناء ممارساتهن الجنسية مع أزواجهن بعد أن تم وضعهن في غرفة واحدة مع نساء مرضعات ، علماً أن من بين هؤلاء النسوة من لم تكن متزوجة و من بينهن من لم تشعر أبداً بالمتعة الجنسية أثناء ممارستها سابقاً .
عندما نشير إلى هذا الجانب الحميم من العلاقة الزوجية فإننا لا نعني بالضرورة إثارة الاهتمام به من حيث هو مجرداً فقط ، و إن كان مهماً فعلاً لإتمام الحياة الزوجية ، و لكنني أريد من القارئ العزيز أن يسافر بفكره إلى ما هو أبعد من ذلك ، و يتفكر و يتأمل ، فالرضاعة الطبيعية بهذه الطريقة دافع من دوافع البقاء للجنس البشري ، و هي بحثها على إفراز الفيرمونات الجنسية من جسد الأم المرضع فإنها يمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر على الحفاظ على النسل البشري ، كما و أنها يمكن أحياناً أن تؤثر بشكل مباشر و ذلك من خلال التأثير المعروف عن الفيرمونات الأنثوية أحياناً على الحض على تنشيط الجريبات المبيضية ، و العمل على إنضاجها بالشكل الأتم . إن الأم عندما ترضع أطفالها رضاعة طبيعية فإن هذا يبعث رسالة إلى جسمها أنها قد أتمت حملها و وضعت ثقلها ، و هذا ما يعني أنها الآن في طور الاستعداد لاستقبال جنين جديد في رحمها ، و في هذا حفظ للنوع و بقاء للبشرية . قد يشكك البعض في دور الفيرمونات التي أشرت إليها ، و على الرغم من أنني لم أحاول أن أصورها على أنها عصا سحرية في العلاقة الزوجية ، إلا أن أحداً لا ينكر فعاليتها و تأثيرها الكبير على كل من الرجل و المرأة ، و إن مثل هذه الفيرمونات هي التي تحفظ أنواع بعض الكائنات الحية ، و مثلها أيضاً يمكن أن يجد الرجل ريحه أحياناً في عرق المرأة و مفرزات أخرى منها ، كما و إن العديد من الشركات تستخلص بعض الفيرمونات و تصنعها بشكل مركز و تضيفها إلى العطور النسائية
و عوداً على ذي بدء .. أقول إن الإرضاع الطبيعي هو أفضل قرار تتخذه الأم لوليدها في مطلع حياته ، و هي إن نفذته فهذا أدعى أن تنتخب صالحه في المستقبل و أن تتخير له الأفضل في كافة شؤونه . و إن لم يكن هناك من مانع معروف و واضح للإرضاع فحرام على الأم أن تحرم نفسها و طفلها هذا الخير العميم الذي يمكن أن ينجم عن تآثرات الإرضاع الوالدي الطبيعي ، و التي تنعكس إيجاباً أيضاً على صحة الأم حيث إن الإرضاع الطبيعي يقلل كثيراً من احتمالات الإصابة بأورام و سرطانات الثدي ، هذا عدا عن كونه وفراً اقتصادياً كبيراً للعائلة التي زاد عدد أفرادها ، و كانت حكمة الله في أن يرسل الطفل و يرسل معه طعامه و شرابه و صحته حتى لا يثقل على كاهلهم ، و ما على الأم إلا أن تسمح لحنانها الطبيعي الغريزي أن يتفجر من ناح