وبينما كانت فلسطين، في عصور ما قبل التاريخ، آهلة بالسكان،
تعرضت في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد
لموجة عربية (سامية) كبيرة، وهي الموجة المعروفة باسم (الآمورية ـ الكنعانية)
التي تعاظم أمرها قبل عام (2500)ق.م. فنزل الآموريون
داخل بلاد الشام وجنوبها الشرقي (شرقي الأردن)،
واستوطن الكنعانيون ساحلها وجنوبها الغربي فلسطين
والكنعانيون على وجه الاجمال، معتدل القامة، ممتلىء الجسم، عريض الأنف،
ضخم الشفتين، بارز الذقن، كثيف الشعر وجلود في الأعمال الشاقة.
اختلف العلماء في تفسير معنى كلمة (كنعان) فبعضهم ذكر ان (كَنَع) أو (خَنَع) كلمة سامية
بمعنى الأرض المنخفضة.
وقد دعي الكنعانيون باسمهم هذا لنزولهم الأراضي السهلية واستقرارهم فيها
تمييزاً لهم عن غيرهم الذين نزلوا الجبال والمرتفعات.
والحقيقة أنهم سكنوا الجبال كما استقروا في السهول.
وغيرهم ذهب إلى إنها كلمة (حورية) مشتقة من كلمة (Kuaggi)
التي تعني صبغ الأرجوان الذي اشتهر به الكنعانيون.
والذي نرجحه ان الكنعانيين دُعوا بهذا الاسم نسبة إلى جدهم الأول (كنعان)
كما هي عادة العرب في تسمية قبائلهم، فيقولون (بنو مخزوم) و (بنو لَخْم) و (بنو تميم)
و (بنو هاشم) و (بنو كنعان)…
و (بنو كنعان) هؤلاء كانوا يقيمون في بادىء أمرهم،
في أرضهم السهلية الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي.
وقد نسبت اليهم وسميت (بأرض كنعان)[55].
ولما نزحوا منها ونزلوا الشام حملوا معهم اسمهم واسم بلادهم الذي أعطوه لوطنهم الجديد
والكنعانيون شديدو الصلة بالآموريين،
فهما فرعان من قبيلة كبرى واحدة تحركت في هجرة واحدة لا في هجرتين مختلفتين.
وتعد لغة الآموريين والكنعانيين لهجتين من فروع كتلة اللغة السامية (العربية) السورية.
فلهجة الكنعانيين شبيهة بلهجة الآموريين لاتختلف عنها أكثر مما تختلف الهجات الشامية
اليوم ـ من سورية ولبنانية وفلسطينيةـ بعضها عن بعض.
حتى ان بعض المؤرخين ذهب إلى انّ الآموريين هم الكنعانيون.
والكنعانيين هم الآموريون.
قال أنيس فريحه: (حوالي 2200 ق.م بدأ تسلل قبائل عربية بدوية من شمالي الجزيرة العربية على نطاق واسع.
وقد انتشرت هذه القبائل في سهول سوريا الشمالية الشرقية.
وقد اتجه بعضها غرباً جنوباً إلى شرق الأردن وتلال القدس وجبال لبنان.
اما الذين تاخموا البحر، فقد عرفوا بالكنعانيين، ومن الكنعانيين كان الفنيقيون.
واتجه البعض الآخر شرقاً جنوباً واكتسحوا بابل، ومنهم كانت سلالة حمورابي الآمورية)[56].
وذكر بعض المؤرخين انّ الكنعانيين كانوا في بادئ أمرهم يقطنون سواحل الخليج العربي الغربية،
قبل نزوحهم إلى سواحل الشام وفلسطين. وأن سفنهم مخرت مياهه قبل ان تنزل في البحر الأبيض المتوسط.
فكانوا يتاجرون مع الهند وايران وسواحل الجزيرة العربية الجنوبية بل وافريقية.
ومن الذين قالوا بهجرة الكنعانيين من الخليج العربي (هيرودوتس ـ Herodotus)[57]
نقلاً عن علماء صور الذين دكروا له ذلك. و(إسترابو) الجغرافي الروماني 64ق.م ـ 19م
الذي أشار إلى المقابر الموجودة في جزر البحرين بأنها تشابه مقابر الفنيقيين[58]،
وان سكان هذه الجزر يذكرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينقية.
وقال ايضاً إن في هذه المدن هياكل تشبه الهياكل الفينيقية الشامية.
وقد عثر رجال شركة الأرامكو في الأحساء على مقابر أخرى تشبه بصورة عامة المقابر التي عثر عليها في البحرين،
كما عثر الرحالة (جون فلبي) على مثل هذه المقابر في (الخَرْج) و (الأفلاج) من أعمال نجد.
وعلى رأيه وبما كان الفينيقيون من هاتين المنطقتين، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى سواحل الخليج العربي.
وفضلاً عما تقدم فهناك أسماء في شرق الجزيرة العربية
تحمل نفس أسماء المدن التي أنشأها الفينيقيون على الساحل الشامي.
مثل (صور) على ساحل عُمان، و (جُبَيْل) على ساحل الأحساء و (ارواد ـ Aradus)
وهي الاسم القديم لجزيرة (المحرّق).
وقد زار (نيركس ـ Aradus) وهي الاسم القديم لجزيرة (المحرّق).
وقد زار (نيركس ـ Nearchus) أمير البحر عند الإسكندر المكدوني مدينة الشمس (صيدا)
على شاطىء الجزيرة العربية الشرقي. ولم يتمكن أحد بعد من تعيين موقع (صيدا) هذه حتى اليوم.
ويذكر جان جاك بيريبى (الخليج العربي ص 169) ان الفنيقيين انطلقوا من البحرين إلى البصرة
سالكين طريق الهلال الخصيب إلى الساحل الشامي حيث بنوا مدنهم وأنشأوا حضارتهم الرفيعة
التي نشروها في البحر الأبيض المتوسط.
وأما (فرنسيس لزمان) مؤلف تاريخ الشرق القديم فيرى انهم سلكوا طريق القوافل من القطيف إلى وادي غطفان
وجبل طويق في نجد.
ثم مروا بالوشم والقصيم فالحناكية
ومنها ساروا في الطريق التي يسلكها الحجاج في كل سنة، حين عودتهم من المدينة إلى دمشق[59].
وقال المرحوم أمين الريحاني: [ما أجمع عليه المؤرخون والآثريون أن الفنيقيين مثل العرب ساميون.
بل أنهم عرب الأصل. نزحوا من الشواطىء العربية الشرقية على خليج فارس (الخليج العربي)،
ومن البحرين إلى سواحل البحر المتوسط في قديم الزمان.
ويستنتج من درس الآثار التي وجدت في المقبرة القديمة في البحرين أن هجرتهم كانت قبل عهد الشبه،
في أواخر العهد الصواني، يوم لم يكن الإنسان يحسن شيئاً من الكتابة. إذ لا كتابة البتة في مقابر البحرين الكنعانية][60].
وقد ذكر المؤرخ العربي أبو جرير الطبري المتوفى عام 310ه: 922م. الكنعانيين في تاريخه أنهم من العرب البائدة،
وأنهم يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة. وأخذ عنه ابن خلدون وغيره من المؤرخين[61].
قال الطبري: (عمليق أبو العماليق. كلهم أمم تفرقت في البلاد،
وكان أهل المشرق وأهل عُمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر منهم؛
ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم (الكنعانيون)، ومنهم كانت الفراعنى بمصر)[62].
وقال أيضاً: (والعماليق قوم عرب لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي)[63].
و ( ان عمليق أول من تكلم العربية)[64](… فعاد وثمود والعماليق وأُميم وجاسم وجديس وطسم هم العرب) [65].
وقال ابن خلدون عن الكنعانيين: (وأما الكنعانيون الذين ذكر الطبري انهم من العمالقة،
كانوا قد انتشروا ببلاد الشام وملكوها)[66].
وقال أيضاً: (أول ملك كان للعرب في الشام فيما علمناه للعمالقة)[67].
وقال أيضاً: (وكانت طَسْم والعماليق وأُميم وجاسم يتكلمون بالعربية)[68].
وقد جاء في الجزء الثاني من (لغة العرب) (والظاهر أنهم (أي الكنعانيين ـ الفنيقيين)
من أصل عربي فقد نقلت التقاليد القديمة أنهم ظعنوا من الديار المجاورة لخليج فارس إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط).
وقال الدكتور جيمس هنري برستيد: (وسكان هذه البلاد الآسيوية (سورية) ساميون،
لايبعد أن يكونوا من مهاجري صحراء العرب،
والمعروف ان مثل هذه الهجرة تكررت في العصور التاريخية.
ويقال لهؤلاء القوم الحالين بالجهات الشمالية (الآراميون) وبالجهات الجنوبية (الكنعانيون)[69].
(قال رولنسون ان أصل الفنيقيين (الكنعانيين) من سكان البحرين في الخليج العربي.
ظعنوا من هناك إلى سواحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة.
وانهم عرب بأصولهم وان هناك مدناً فنيقية أسماؤها فنيقية مثل صور وجبيل)[70].
وعليه فإن الكنعانيين دخلوا بلادنا وهم متقدمون في المدنية،
فأخذوا يتابعون نشاطهم ويمارسون حضارتهم على نطاق أوسع في وطنهم الجديد.
ونسبة إلى هؤلاء الكنعانيين دُعيت البلاد بأرض كنعان. فكان أقدم اسم سميت به بلادنا.
وقد بقيت لهم السيادة والسلطة في البلاد مدة تنوف عن ألف وخمسمئة سنة.
وذلك من نحو 2500ق.م. إلى نحو 1000ق.م. حيث تمكن اليهود من اعلان مملكتهم.
حدود أرض كنعان:
يتضح من مراسلات (تل العمارنة) التي تعود بتاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد،
ان المصريين كانوا يطلقون لفظة (كنعان) على جميع السواحل السورية.
و (العهد القديم) الذي هو أهم مصدر لنا في هذا الشأن اختلف في تحديد (أرض كنعان)
في مختلف أسفاره فتارة يطلقها على الساحل الشامي إلى حدود مصر[71]،
واحياناً يضيف إلى (كنعان) القسم الجبلي[72] وغور الأردن[73].
وفي الصحاح الأول من سفر القضاة يطلق اسم (ارض كنعان) على سكان الجبال والسهول
ومنطقة بئر السبع الواقعة في جنوبي البلاد، والتي كانت تعرف باسم (النجب ـ Negeb) بمعنى الأرض الجافة.
ويحدد الدكتور جورج بوست أرض كنعان بالحدود الآتية: (وكانت حدودها الأصلية حماة[74]
شمالي لبنان إلى الشمال وبادية سورية والعرب إلى الشرق وبادية العرب إلى الجنوب،
ولم تمتد إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في كل الأماكن إلى الغرب لأن الفلسطينيين
مازالوا إلى أن انقرضوا يقطنون ذلك الساحل)[75].
ولما كان القطر الشامي، ومنه فلسطين، يتكون من عدة أقسام يختلف بعضها عن بعض،
من سهول ساحلية، فجبال مرتفعة تُشرف على سهول وأغوار،
فسلسلة جبال اخرى تنتهي بالصحراء، كان من الصعب نشوء حكومة موحدة مستقلة قوية.
ولذلك اشتمل على عدد كبير من الممالك المدينية الآمورية ـ الكنعانية المختلفة.
فكانت كل منها تسعى لآن تضم أكبر عدد ممكن من الأراضي والقرى المجاورة لها.
وكان لكل من هذه المدن ملكها وحكومتها ومعبودها وكهنتها. وكان الملك في بعض الأحايين،
يجمع في شخصه منصبي الحاكم والكاهن الأكبر.
يأمر الجميع بأوامر الملك الذي كان أحياناً يتقيد بمجلس المدينة العام المؤلف من رجال الدين والقضاء والأغنياء والأشراف.
وكثيراً ما كانت المدن الكنعانية بيد ملوك صالحين يقضون بالعدل ويحفظون حقوق الأرامل واليتامى.
وكان الابناء أو الإخوة يخلفون آباءهم أو إخوتهم على العرش على الأغلب.
وقد ينتقل الملك إلى أسرة أخرى أو تنتزع الإمارة وتسلب نتيجة ثورة عناصر تصبح لها الغلبة.
وحين الضرورة كانت تعقد مؤتمرات من المدن الكبرى للتداول في الشؤون العامة المشتركة.
ولم تكن المدن والإمارات الكنعانية ميّالة بطبيعتها إلى توحيد كلمتها وتحسين ادارتها،
بل كان الشقاق سائداً بينها طمعاً في نهب الامتعة وضم الاراضي اليها.
(قال المؤرخ جورج رولنسون: ما تأسس حلف من الولايات الفنيقية كلها مرة واحدة،
حتى ولا حلف موقت. وما كان يرد إلى الولاية المهددة أي نجدة من الولايات الأخرى شقيقاتها.
الانطواء وتضارب المصالح الخاصة، وضعف الحس القومي،
كانت كلها تحول دون توحيد الكلمة والعمل في ايام الخطر والشدة.
وكانت كل ولاية تسقط وحدها، فتتبعها الولايات الأخرة واحدة واحدة.
فما كان اولئك الفنيقيون ليدركوا معنى التعاون، ولا مالوا يوماً إلى التضامن العام الذي فيه خير القومية الواحدة والوطن.
ولنا أن نقول ما كان هناك وطن واحد، ولا حس قومي واحد، حتى ولا إله واحد يجمع شملهم،
ويربطهم برابطة وطنية واحدة.
وما عرف أبناء مدنهم المنحدرون من نسل واحد معنى الإخاء القومي،
ولا أدركوا مغزى الحياة الوطنية. وقل فوق ذلك انهم كانوا متعادين في بعض الأحيان،
متخاذلين على الدوام)[76].
إلاّ انّ هذه الإمارات كانت ولا شك، على جانب عظيم من الحضارة والمدنية في أمور أُخرى مما سنذكره في حينه.
والكنعانيون الذين نزلوا الساحل أمام جبل لبنان عرفوا بعد القرن الثاني عشر أو الحادي عشر قبل الميلاد بالفنيقيين.
فالكنعانيون والفنيقيون شعب واحد، نسباً ولغة وديناً وتمدناً،
انقسم إلى قسمين: سكن الأول فلسطين والثاني الساحل الشامي من مصب نهر العاصي إلى جنوبي الكرمل.
ومع أن اسم الفنيقيين أصبح اشهر من اسم كنعان عليهم إلاّ أنهم ظلوا محافظين على نسبهم الكنعاني.
وبقوا يسمون أنفسهم كنعانيين ولا يرضون عنه بديلاً.
ونظراً لما بين بيئتي القسمين الجغرافيين من الإختلاف لم يتشابها تماماً في حياتهما.
فالساحل السوري صيّر من كنعان أمة اشتهرت بملاحتها وخوضها عُباب البحور.
وأما فلسطين فلعدم وجود موانىء صالحة على سواحلها، ولتعرضها للغارات المتعددة من قبل الأمم القديمة،
اتجه كنعانيوها إلى الأعمال الزراعية وإلى الجبال والقلاع،
وأحاطوا مدنهم بأسوار يلتجئون اليها كلما شعروا بقدوم غازٍ أو فاتح جديد.
حصل الفنيقيون على أكبر نصيب من العمران عن طريق التجارة،
كما أن اخوانهم في الجنوب اهتموا بالتغلب على صعوبات الحاجات العمرانية
بترفيه حالتهم الإقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً، اتخذت مثالاً نقلت عنه الأمم الأخرى.
ومما يجدر ذكره، ونحن بصدد الحديث عن الكنعانيين انّ ابن خلدون المؤرخ العربي المغربي الكبير
وكثير ممن درس تاريخ المغرب يؤكدون بأن الأمازيغ ـ أصل وأقدم سكان ليبيا والمغرب العربي كافة
هم من الكنعانيين[77].
دعوا بذلك نسبة إلى جدهم (مازيغ بن كنعان)[78]،
ارتحلوا من ربوع الشام إلى شمالي إفريقية عن طريق مصر.
وقد أطلق اللاتينيون، ومن والأهم، اسم (البربر) على الأمازيغ وما زالوا يعرفون به إلى اليوم.
هذا وأن معظم البربر يعتقدون بأنهم مشارقة الأصل.
كان هؤلاء الكنعانيون المغاربة ينقسمون إلى عشائر متعددة وقبائل صغيرة محلية،
حضارتهم كنعانية ترتكز على الزراعة.
وجاء في معجم البلدان 1/368: وانّما هم (أي البربر) من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت،
وكانت منازلهم ناحية فلسطين، فلما أخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا به وأقاموا في جباله).
وقال مثل ذلك المؤرخ المسعودي المتوفى عام 346ه[79].
وفي تاريخ أبي الفداء[80] ان الكنعانيين بعد تفرقهم سارت طائفة منهم إلى المغرب[81].
وفي نحو 1000 ق.م نزل كنعانيو الشرق ـ الفنيقيونـ سواحل المغرب العربي واستقروا فيه،
وأسسوا مع أبناء عمهم الأمازيغ، أسواقاً لتجارتهم أصبحت فيما بعد مدناً قائمة بذاتها،
تمتد من سواحل ليبيا حتى سواحل المملكة المغربية الواقعة على المحيط الأطلسي.
ونتيجة لهذه المستعمرات أو المدن اختلط كنعانيو المشرق مع كنعانيي المغرب اختلاطاً وثيقاً
فانتشرت اللغة الكنعانية بين الأمازيغ الذين اعتنقوا عقائد ابناء عمهم الفنيقيين الدينية
وتطبعوا ببعض عاداتهم وتعلموا منهم أصول التجارة والصناعة وغيرها