عالم الكبار كانت تتحرق شوقا إليه ذلك اليوم الذي ستدخل فيه عالم الكبار
في نظرها كان عالما ساحرا تتساقط أمام قوته كلّ المحرمات وتتهاوى جدر الممنوعات...
شوقها إليه كان يتزايد كلما ووجهت بتلك العبارة (مازلت صغيرة... هذا للكبار) تبريرا لرفض طلبها الخروج من البيت أو مشاهدة فيلم السهرة أو قراءة رواية أو حتى استعمال الكمبيوتر...
كل تلك الممنوعات وماشابهها كانت تجعلها مقيدة تكبّل انطلاقها وتأسر تحليقها بحريّة في عوالم أخرى باتت أهم عندها من (حنان) دميتها الشقراء أو (حَبُّوب) شريكها في السرير الدب البني.
وحين أيقنت أن والدها ليس إلها وأنه لا يستطيع أن يعلم بما لم تشاهده عيناه أو تسمعه أذناه كان كل ماعليها فعله هو الهروب إلى سطح المنزل لتتمتع بقراءة تلك الرواية التي سرقتها من خزانة شقيقها مازن وكل ماتبعها بعد ذلك من سرقات...
كان شعورها بالوحدة يزداد ورغبتها بالاستقلالية تزيد من جاذبية بقائها على السطح لساعات. أما حنان وحَبُّوب فلم يقصرا في مساعدتها على التمويه عن سبب صعودها الدائم إلى السطح حتى أيام البرد الشديد!.
ووحدها لولو ـ القطة الصغيرة ـ كانت تقدّرها وتعاملها كبقية أفراد العائلة وأكثر؛ كانت تنام في حجرها كما تفعل مع مازن وتتمسح بساقيها كما تفعل مع والدها لا بل ترخي رأسها وتغمض عينيها احتراما لها وخجلا منها إذا ضربتها على رأسها مؤدبة تماما كما تفعل مع أمها.....
كم كانت فرحتها عارمة في ذلك اليوم حين اكتشفت أن ملابسها التي خبأتها أمها لها منذ الشتاء الماضي باتت قصيرة وضيقة:
ـ سأخرج لك ما بقي من ملابس فاطمة، لقد خبأت لك أفضلها وأجملها في السقيفة، أكيدة أنا أنها صارت في مقاسك الآن.
ملابس فاطمة أختها الكبرى وأول طفل في العائلة؟! لم تنس أبداً تلك الأثواب الجميلة التي كانت تصعد خلسة إلى السقيفة بين الحين والآخر لتجربها! كانت دائما طويلة الأكمام عريضة الصدر والخصر... هل حقا صارت الآن في مقاسها؟!
وقفت أمام المرآة طويلا تتأمل جسدها... سوف لن تنزعج مرة أخرى من تلك الندبتين اللتين ظهرتا في صدرها وأخذتا تكبران خاصة أنها تعلم أن أمها وفاطمة لديهما أكبر منهما ولا تتذمران أبدا وقد سمعتهما يوما تتندران بشعورها ذاك وتعلق الأم بأنها تكبر بسرعة!
إنها تكبر...هذا التصريح جعلها تدور حول نفسها وتقفز فرحا...أخيرا سيسمح لها بالخروج من المنزل مساء كما يسمح لمازن! أخيرا ستشاهد فيلم السهرة مثلها مثل فاطمة ! ولابد أنها سترافق أمها إلى حفلات الزفاف والاستقبالات الصباحية كما كانت تفعل فاطمة قبل أن تتزوج ! ولكنها لن تعجل بالزواج كفاطمة بل تريد أن تذهب إلى الجامعة هناك أكيد ستلتقي بشاب وسيم ـ تماما كبطلة الرواية التي تقرؤها ـ ويتبادلان الحب والإعجاب وبعد أن ينهيا الدراسة سيتزوجان ويعملان معا لبناء حياة مستقلة... طبعا هي لا تريد أن تكون ربة منزل كفاطمة أو كأمها؛ تريد أن تبني شخصيتها وتتعلم لذا لن تكون بحاجة إلى الصعود إلى السطح لقراءة الروايات بل ستقرؤها في غرفتها وتضعها على رف الكتب ( جهارا نهارا!).
حين استيقظت هذا الصباح لم تكن بكامل حيويتها كعادتها؛ تلك الانقباضات والتشنجات التي كانت تحس بها مؤخرا ازدادت اليوم عما كانت عليه وزادها الشعور بالامتلاء ضيقا فاستلقت في فراشها مكتئبة ولم تفلح محاولات لولو في إنهاهضها من الفراش و حين رأت أمها اصفرار وجهها وشحوبها مسحت جبينها بحنان:
ـ مابك ياحبيبتي؟
ـ أشعر بألم في أسفل بطني ... أنا متعبة.
ـ (تقبّلها) لا بأس عليك يا حبيبتي، سأصنع لك كأسا من النعناع الدافئ سيساعدك إن شاء الله على الشفاء.
كأس النعناع الدافئ! كانت تذكر أن أمها حضرته مرارا لفاطمة عندما كانت تصاب هي الأخرى بالشحوب تزيدها عليه حبة دواء صغيرة فتتحسن بعدهما صحتها! ولكن لماذا لم يفلح معها كأس النعناع؟
نهضت من الفراش كالمجنونة بعد أن أحست بشيء ينساب رغما عنها من جسمها... دخلت الحمام بسرعة وأوصدت الباب خلفها بقوة لفتت انتباه أمها!
ياالله!... ماهذا؟! مالذي يحصل لها؟!
بيدين مرتعشتين مذعورتين حاولت إزالة تلك البقع الغربية عن ملابسها... مالذي ستقوله أمها؟! ماذا سيفعل بها والدها؟! ولكنها لم تفعل شيئا... لم ترتكب ذنبا...( وتذكرت الروايات والسطح وكيف أنها اختلست النظر إلى التلفاز أثناء خروجها ذات ليلة إلى الحمام ورأت كيف قبَّل بطل الفيلم البطلة بطريقة مختلفة عن تلك التي تعرفها!)... هل يعقل أن ماحدث هو عقوبة لها؟!
زاد ذعرها حين استمرّ الانسياب وبدأت دموعها تنساب حارة وهي تكتم أنفاسها حتى لا يسمع صوتها:
ـ (تطرق الباب برفق) ريمة! أأنت بخير؟!
ـ ( تغالب البكاء) نـ ... نـ...ـعم!
ـ ماذا تفعلين كل هذا الوقت في الحمام؟! افتحي الباب!
(.............)
ـ ( تطرق الباب مجددا) افتحي الباب فورا ولا تخافي...( وتتابع الطرق بسرعة أكثر).
ـ ( تفتح الباب ببطء ... وما إن ترى أمها حتى ترتمي بين يديها) سامحيني ياماما أرجوك... أنا لن أكرر ما فعلت ثانية! أعدك...لكن أرجوك لا تخبري بابا... لا تخبري أحدا أرجوك!.
ـ ( تبتسم وهي تنظر إلى الملابس الملوثة على المغسلة) لابأس! لا تخافي ياريمة! ماحصل معك يحدث مع كل الفتيات!
ـ حقا؟!
ـ نعم.
ـ لكن لماذا؟! وماهذا؟!
ـ هذا دليل على أنك أصبحت كبيرة الآن وعليك أن تتعلمي كيف تتصرفين في مثل هذا الظرف.
( تدفن وجهها في حضن أمها) أهي الآن كبيرة؟! أبهذه الطريقة المقرفة الوسخة؟! ألا يُدخل هذا العالم إلا هكذا؟!..... آه!! ليتها لم تدخل عالم الكبار الوسخ هذا!! ليتها بقيت صغيرة!!