الألم الإنساني
يعتبر هذا الألم نتاجاً للواقع الاجتماعي المأساوي الذي يحياه الإنسان ويعاني منه. ففي العالم عدد كبير من البؤساء والمحتاجين والمعوزين والمرضى والمظلومين الذين يئنون من وطأة ضغط اجتماعي فُرِض عليهم. وليس شعور الإنسان إزاء هذا الموقف إلا شعوراً بالألم والأسى. هكذا، ينطلق ألم الإنسان من وضعه. وينقسم هذا الألم إلى قسمين: ألم إزاء نفسه، وألم إزاء الآخرين.
إن وضع الإنسان الاجتماعي يحدد مقدار ألمه. فإن كان يعاني من وطأة الضغط الاجتماعي، يتألم، ويكون ألمه تعبيراً عن احتجاج صارخ لفقدان العدالة. وإن كان وضع الإنسان يسمح له بأن يرفَق بالآخرين ويشعر بشعورهم، فإنه يتألم. ويكون ألمه هذا تعبيراً عن احتجاج لفقدان العدالة.
لقد تألم المصلحون الإنسانيون لأنهم رأوا أن ظلام الإنسان الأناني يخيم على المجتمع، أي على الآخرين. تألموا وهم يشاهدون مأساة الإنسان الاجتماعية: هنالك الضغط، ضغط فرد على آخر؛ هنالك الكبرياء والغطرسة؛ هنالك الاستغلال والإحساس بالعظمة الفارغة؛ هنالك الأنانية التي تجيز لإنسان أن يضطهد إنساناً آخر وأن يحرمه معنى وجوده المعيشي والحياتي، المادي والمعنوي. استطاع المفكرون الإنسانيون والمصلحون الاقتصاديون أن يصوِّروا واقع الإنسان الاجتماعي، فعبَّروا عن بؤس هذا الواقع وتألموا من أجله، فشعروا مع المعذبين والبؤساء والمحرومين، وكان ألمهم إنسانياً. ولقد عبَّر المسيح عن هذا الألم، فكان إلى جانب المظلومين.
عندما نتحدث عن الألم الإنساني لا نشير فقط إلى ألم البؤساء والمعذبين من بني البشر، بل إلى ألم آخر نشعر به تجاه الظالمين. فعندما نقول بأننا نشعر مع المظلومين فإنما يعني أن ظلمهم ناتج عن ظلم آخر. وبهذا الصدد، نتألم من أجل الظالمين أنفسهم لأنهم ضائعون: إنهم سبب البلاء والمصيبة. ومن جانبنا، نتألم على إنسان ظالم لأننا نعتبره ضائعاً. وليس ألمنا إلا تعبيراً عن الشر والخطيئة التي يسببها. إننا نتألم لأنانيته وذاتيته وكبريائه، نتألم لأنه لا يحقق إنسانيته، ولأنه أضاع كل قيمة بالشعور الإنساني. فالألم الإنساني تعبير له حدَّان: حدٌّ يصيب الظالم، وحدٌّ آخر يصيب المظلوم. وليس المظلوم إلا نتاجاً للظالم؛ وليس الألم الذي يصيبنا عندما نفكر بالمظلوم إلا ألماً يعبِّر عن ذاته كاحتجاج ضد الظالم ذاته. إننا نتألم لأن الإنسان أضاع غايته؛ فهولا يعرف أنه قد وُجِدَ ليخدم. وعندما يجهل الإنسان هذه الحقيقة ينقلب المجتمع إلى حقل صراع رهيب ينتج عن أنانية الإنسان. فالمتكبر أناني، والمتسلط أناني، والمستغل أناني. إنهم جميعاً أضاعوا إنسانيتهم؛ ولهذا نتألم. أما المظلومون فإننا نتألم من أجلهم لأنهم ضحية الظلم القاسي.
الألم الإنساني ألم إيجابي يرفع الإنسان في درجات إنسانيَّته ليصل إلى روحانيته. فلا يتألم إلا العظيم؛ أما الأناني فإنه يعتبر الموضوع مجرد أمر اجتماعي واقعي. وعلى غير ذلك، يعتبره العظيم شذوذاً عن قاعدة المحبة والمثالية. وهكذا، لا يشعر بالألم إلا صاحب الشعور الإنساني العظيم. أما نتائج هذا الألم فإنها تبدو سلبيَّة بظاهرها، لأن الاحتجاج الصادر عن المظلوم يحمل في ثناياه الإحساس بالتمرُّد والنقمة. إنها نقمة، لا بل هي ألم، نتج عن دافع مأساوي تسبَّب عن أنانية الإنسان الظالم وانحطاطه.