أودُّ بدايةً أن أقول إنني، في هذا المقال، أسعى إلى الكشف عن حقيقة الموت والحياة على جميع الأصعدة، معتبرًا إيَّاهما مظهرين متعارضين، وفي الوقت ذاته متكاملين، لسيرورة كلِّية واحدة.
ويجدر بي، قبل التعمق في بحث معضلة الحياة والموت، أن أطرح على نفسي السؤال التالي: ماذا أتوقع من دراسة كلمتَي "الموت" و"الحياة" وأنا أطرحهما على مستواهما الأعم والأجلى والأعمق؟
عندما أتحدث عن "حياة" إنسان بلغ السبعين من عمره، أعلم أن حديثي يدور حول "استمرار" وجود معيش واحد بعينه، وأجد، على الرغم من التغيرات الطارئة على السمات والتفاصيل التابعة لأحداث المصير الفردي وأعراضه، أن هذا الاستمرار يحتفظ، في عمقه، بوحدة الهوية والذاتية. فعندما يتوقف القلب عن الخفقان نتيجة مرض أو حادث، أو عندما تتوقف الحياة الفسيولوجية والنفسية، أتحدث عن "الموت".
والحق أن الموت، في واقعه وحقيقته، يتلازم مع القانون الذي يُحدِثُ التغير في عمقه. ومع ذلك، يرى العديدُ من العلماء والحكماء أن الحياة، بدورها، تتلازم مع قانون التغير أو التحول. لكني عندما أتحدث عن "حياة" أحدهم، أتحدث، في الوقت ذاته، عن الاستمرارية أو التواصل؛ وبالتالي، أتحدث عن غياب التغير، وأعني الخاصية المميِّزة لمجموعة النزعات والميول النفسية المتعارضة، بحيث إن تفسير التوازن فيما بينها يتم في أصالة أو في فردانية متماثلة أو متجانسة نسبيًّا عِبْرَ "عمر" واحد.
أولاً: الحياة والموت في الفيزياء
مع ذلك، تُظهِرُ الدراسةُ المعمَّقة لشدة التبادلات التي تحدث بين الخلايا والنويَّات الخلوية وتلك التي تحدث بين السيرورات الذرية عدم ثبات وعدم دقة، بل وغموض، أفكارنا المتعلقة بالتغير، بالتواصل المستمر، وبالحياة والموت.
إنْ كان مقياس الرصد المألوف يُمِدنا بالقدرة على الكلام، ظاهريًّا، على الاستمرار والتواصل البيولوجي والنفسي لإنسان بعينه، فإن ثمَّة تغيراتٍ مستمرةً ومتواصلةً على مقياس السيرورات التي تحدث بين المكوِّنات التحتية على المستويين الخلوي والذري (وهي تعمل وفق إيقاع صاعق ومرعب) – وهذا لأن تاريخ الغالبية العظمى من المكوِّنات النهائية القصوى للمادة هو التاريخ الذي يحدِّثنا عن ملايين عمليات الموت والحياة، أي عن ملايين الميتات والولادات، في الثانية الواحدة. ولو أننا طبَّقنا قيمَنا التي نخلعها عادةً على الصفات البشرية للحياة الإنسانية، أي على معالم الاستمرارية والفردية الدائمة، – لو أننا طبَّقناها على مستوى القُسيمات ما دون الذرية subatomic particles لوجدنا أنفسنا أمام طريق مسدود. وفي هذا المنظور، نجد أن حياة الغالبية العظمى من القُسيمات ما دون الذرية لا تدوم لأكثر من واحد على مليار من الثانية. والحق أن شدة سيرورات الارتباط أو الاتصال، بمقياس التفاعل النووي ومقياس الطبيعة "العَرَضية" للقُسيمات ما دون الذرية، تحُول دون النظر إليها وفق مقياس "فردية" من أيِّ نوع كانت أو مقاربتها وفق مقياس الاستمرارية.
لقد لاحظ العلماء، في هذه المنطقة الأخيرة القصوى للحياة المادية، القدرةَ التي يتمتع بها التغير والحركة. وهكذا تبدو "حياة" القُسيمات الأولية elementary particles المتلاشية للعالم الذري و"موتها" وكأنهما التعبير عن سيرورة أو تطور للحركة الأصلية أو الجوهرية التي تشملهما أو تسودهما. وهذا ما يحدث على مستويات الكون جميعًا، الذرية والبيولوجية والپسيكولوجية: ثمة حركة أساسية أو أصلية جوهرية هي دوامٌ واستمرار دينامي؛ وتشتمل هذه "الحركة الأصلية والجوهرية" على الحركات جميعًا، وتُشرف على مليارات ولادات كونٍ بعينه وميتاته.
ثانيًا: الحياة والموت في البيولوجيا
في هذا السياق، يحدِّثنا الفيزيائي الفرنسي شارل نويل مارتن بما يلي:
لا نستطيع أن نعرِّف بالحياة بكونها نتاج المادة المركَّبة التي تتجمع (النباتات)، أو بكونها تستفيد من طاقة خارجية، شمسية أو غيرها (الحيوانات). ثمة وجودٌ يتجاوز تجاوزًا تامًّا قدرتَنا على الرصد، بحيث إننا نعجز عن وصفه أو شرحه. لكننا، مع ذلك، نحيط به بفكرنا وعقلنا ونستطيع أن نتصوره على نحو "كيان"، دون إمكانية تعريفه، في نطاق علم متطور ومتقدم جدًّا. ويُحتمَل ألاَّ نبلغ هذا المستوى من المعرفة، وذلك لأن عقل الإنسان ليس موجودًا لهذا السبب.
ومع ذلك، يمكن لنا أن نقول بأن هذا الوجود يخضع لقوانين، تمامًا كما يخضع العالمُ الفيزيائي لقوانين تقبل الوصف رياضيًّا. وكما أنني أستطيع أن أقدِّر أن الرياضيات الحاضرة والمقبلة يجب أن تشمل جميع الأوصاف لما هو كائن، كذلك أستطيع أن أفكِّر بأن هذا "الكيان" يجب أن يخضع لقوانين أساسية وجوهرية تتميز بالثبات. أقول هذا وأنا أتيقَّن من وجود مبدأ انحفاظ الطاقة عبر التحولات الطارئة.
لئن كان شارل نويل مارتن محقًّا في تأكيده على "كيان" ما، يشكل نوعًا من الدوام والاستمرار والثبات المتجاوز لثنائيات الموت والحياة البيولوجية، ويشير إلى أنه ثبات ستاتيكي يؤكده التقدم العلمي، لكن الواقع يؤكد، على نحو آخر، على وجود حقل كوني للخلق. ومع ذلك، يتحدث مارتن عن وجود مبدأ ثابت، غير متغيِّر، يعتبره البرهان على وجود "كيان حي". وفي هذا الصدد، يقول مارتن: "الولادة والحياة والموت إنما هي تحولات." وفي قوله هذا نجد أنه يتحدث عن وجود مبدأ لا يطالُه التغيُّر، هو الصفة النوعية للوجود ذاته والواقع الذي يشير إلى وجود كيان حي. وبالفعل، تكون
[...] صفة الحياة دائمة ومستمرة وثابتة، وذلك لأنها كانت، ومازالت، تنتقل من طور إلى طور منذ البدء.
هكذا يعلن مارتن وجودَ أبعاد متمِّمة تتناظر تناظُرًا ملائمًا مع الأبعاد الأساسية الثلاثة. وهو يتابع حديثه قائلاً:
كنت في السادسة عشرة من عمري عندما استمعتُ إلى محاضرة تدور حول مؤلَّف من مؤلَّفات [آرثر] إدِّنغتون يتحدث فيه عن النسبية العامة. وكنت قد وُفِّقتُ، يومذاك، إلى فهم معادلة رياضية تؤكد ما يلي: إن الانتقال من مكان ذي ثلاثة أبعاد، يُضاف إليها بُعدٌ لتُصبح ثلاثة أبعاد وزمن، إلى مكان ذي أربعة أبعاد، يعني أنه يجب علينا أن نعبُر الحدَّ الذي تُلغى فيه سرعة الضوء. لقد أذهلتْني هذه المعادلة، وأذهلني معها هذا التفكيرُ إلى حدٍّ كبير، وعلمت أنني خلصت إلى إدراك المقايسة التالية: الموت لما أو لِمَن يتوقف عن الحياة هو إلغاء سرعة الضوء، وذلك لأن الزمن لن يعود موجودًا بالنسبة له. وما من شيء يمثِّل لبُعد الزمن أفضل مما يمثِّل له الفوتون وهو ينطلق بسرعة ثابتة لا تتغير. وهكذا فإن الموت هو إلغاء الزمن.
يتابع مارتن أطروحته ليعلن ما يلي:
المزيد من الحياة يعني المزيد من التطور والنمو. وهذا يعني وجود زمنٍ لامتناهٍ يطرأ، في عمقه، التطورُ اللاَّحق طروءًا فجائيًّا، وتصبح فيه سرعةُ الضوء لاشيء، بمعنى أن سرعة الضوء تُلغى.
يتطابق "إلغاءُ سرعة الضوء" مع تجاوُز البُعد المتمِّم. والحق أن ما ندعوه "الموت" هو، في رأي مارتن، المرحلة التي يتم تحديدُها أو التعبيرُ عنها في أبعاد وجودية أخرى. ويتابع مارتن حديثه فيقول:
لمَّا كنَّا كائنات تتطور في زمكان ذي أبعاد ثلاثة يُضاف إليها بُعد رابع، فإننا نستنتج أن الموت يجعلنا نلج إلى مكان ذي أبعاد أربعة.
وفي موضع آخر من حديثه يقول:
لا يمكن لي أن أشك بأن حياتنا، التي هي حياة قصيرة أو مختصَرة بالقياس إلى حياة الكون، هي مجرد ظاهرة عابرة أو زائلةٍ تتمدَّى [تتخذ صورة المادة] ثم تختفي. أما المقايسة فإنني أجدها في قُسيمات العناصر الأولية الأصلية التي مازلنا ندرسها منذ سنوات. إننا نراها: إنها تتمدَّى وهي تعاني، وتحيا جزءًا من مليون من الثانية، ثم تختفي، ولا يبقى منها غيرُ أثر يشير إلى تجلٍّ واقعي أو ملموس. وإذا ما تساءلنا: ألم يوجد شيءٌ ما قبلها؟ ألن يوجد شيءٌ بعدها؟ لأجبنا: لقد وُجِدَ شيءٌ قبلها، ويوجد شيءٌ بعدها. والحق أن الأطوار الثلاثة لم تكن إلاَّ تحولات لأشكال مختلفة لتجلِّيات ما نرصد.
ويعلِّق مارتن على النحو التالي:
أتأكَّد، يومًا بعد يوم، أن الحياة، على المستوى الفردي، هي عبور مختصر لمرحلة أبدعتْها بنيةُ العالم الذي نحمله في داخلنا. ويُحتمَل أن يوجد خزان كوني للحياة وللوعي يلازمُه تمدٍّ أو تجسيم نفسي يتوضَّع على أساس ماديٍّ متطوِّر يقوم على إرجاع ثابت في أساسه وعمقه.
ويتابع قائلاً:
كما يوجد مضمون أو محتوى هو بمثابة "طاقة" للكون تبدو وكأنها ثابتة، كذلك يوجد مضمون هو بمثابة "وعي"؛ الأمر الذي يعني أن الموت هو عبور أو مسلك يشير إلى حالة تتَّجه إلى المجهول.
يعتقد مارتن أن هذا الخزان الذي يحتوي الحياة والوعي موجود. إنه حقل وعي كوني عام، لاشخصي، يتموضع في الأبعاد الثلاثة الأساسية التي نصف فيها الخصائص والنوعيات.
يمكن لنا الآن أن نتأمل الموقف الفكري الذي أعلنه الطبيب روجيه غودل في معضلة الحياة والموت. يقول غودل:
يُحتمَل أن يوجد تجددٌ كامل أو نموٌّ كامل، دائم ومستمر، لكياني وكيان الكائنات. والحق أن المستقبل هو الذي يستفيد من هذا النمو والتجدد أو التحول.
ويضيف قائلاً:
إننا والعالم بأسره نمثِّل هذا المستقبل الدائم، في أبديته، الذي يتجدد، في تحوُّله، في اللحظة التي ينعدم فيها على نحو تحوُّل.
يعتقد غودل أن الإنسان ليس فردًا أو جزءًا معزولاً من الكون. إنه يحيا في محيط هو "حقل لانهائي للوعي والحياة". وبالإضافة إلى ذلك، يعتقد غودل أن كيان الإنسان هو، في حقيقته، هذا الحقل الذي يتجرَّد من التشخُّص أو التشكُّل الذي تعيِّنه الصفات؛ هذا الحقل الذي تُنشِئُه حركةُ الإبداع التي تتركَّز في الأبعاد الثلاثة الأساسية وتتجاوز هذه الأبعاد في آنٍ واحد.
في هذا المنظور، نكتشف وجود حياة شاملة تشتمل على ظاهرتَي الحياة والموت اللتين تدعواننا إلى التأمل العميق والتفكير الواعي.