كنت احلم أن أكون ملاكماً ، أن أصبح بطلاً !!
ما فتئت اجري وراء الكرة ككل الصبية وفي قلبي حسرة كنت دائماُ على كرسي الاحتياط !!ألعب كلاعب أساسي فقط عندما يتغيب أحد اللاعبين!! ..
جاءت الفرصة متأخرة عندما كان فريقنا يبحث عن أرض نلعب عليها بعد أن فقدنا(( ملعبنا )) ، صاحب الأرض جعلها حديقته الخاصة ، والملعب الآخر ملأه صاحبه بأكوام تراب لا حاجة لها !! لقد فعل ذلك فقط ليحرمنا اللعب على أرضه البور!! أعتقد انه خاف أن تأخذها الدولة لتجعل منها ملعباً !!!ومنذ فترة مررت بقرب ذلك الملعب وقد مر على طمره عشرون عاماً وهو على حاله ..
جاءتني الفرصة عندما دعانا المدرب الطيب بسام المصري بطل العرب السابق والمسئول عن صالة الملاكمة في مجمع العباسيين الرياضي التابع للإتحاد الرياضي العام ، فرح أعضاء الفريق بالدعوة لأن التحمية وتمارين اللياقة البدنية كانت تجري على أرض ملعب العباسيين وما أدراك ما ملعب العباسين ؟؟ في تلك الحقبة كان حلماً لمثلي التمرين على أرضه) الترتان) دفشة واحدة والركب والأكواع تهرأ حرقاً وخدشاً ومن لعب على( التارتان ) يعرف ما قصدت ، خلتُ نفسي هيثم برجكلي أو كيفورك مردكيان لاعبي المنتخب الوطني في ذلك العصر ، كان التمرين عبارة عن قسمين الأول ((فطبول)) والثاني ملاكمة وكنت فرحاً بالملاكمة أكثر ، عكس أصدقائي (( الفطبلجية الأشاوس)) ، أنا هنا لست احتياطيا وكنت متميزاً إلى حد ما لكنني لم أحقق للأسف أي بطولة ، وكم حلمت ارتداء قميص عليه علم بلدي ..
مرت السنين مسرعة وأصبحنا أباء وتفرق الشمل وحطت قسمتي هنا في روسيا ، أما صديقي حسام الذي تربطني به علاقة لا يمكنني وصفها بكلمات ففي برلين وتزوج تشيكية وله منها أبنتين الله يسلمه يارب ، كم تشابهت أقدارنا ، معه تقاسمت أمنياتي..
اليوم يراودني حلم قديم جديد ،هل يستطيع ولدي أن يصبح بطلاً في الملاكمة ؟؟ذلك الطفل الرضيع الذي كان يحمله حسام مع عربته ويصعد به الدرج عندما زارني هنا في موسكو لتعذر حصولي على الفيزا الألمانية وقتها ، مازلت أذكر كيف غافلني حسام واشترى لوسيم الرضيع غسالة نصف أوتوماتيكية ليريح أمه من فض الغسيل وكفين وكيس ملاكمة قياس (ب ب) وعندما عاتبته على فعلته !! أجابني بلا تردد سائلاً أليس وسيم بمقام ابني ؟؟ أجبته نعم فقال :
عندما يصبح بطلاً سيكون لي الفخر به مثلك تماماً وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه له ، أصبح وسيم في الرابعة من عمره والحلم يكبر ، حدثته عن هذه الرياضة لأزرع فيه حب اللعبة رافقته لحضور نزالات الملاكمة ، كانت أمه بنفس الوقت تريده راقصاً للبالية ، هل تتصورون حجم حزني لرغبتها ؟؟ أصبح عمره ثمانية ، اصطحبته لأسجله في نادي للملاكمة فرفضوه !! قالوا مازال صغيراً ، بدأت بتمرينه بنفسي وأنا أقول له دائماً أنت محارب نبيل وجريء أنت شجاع ، أنت بطل .. أنا أناديه بلقب أطلقته عليه (تشمبيون) ، حتى أنني صدقتُ أنا ما أقوله أصبح في الحادية عشرة من عمره .. بدأ الحلم يتحول إلى شيء قريب ، بدأت تلوح معالمه ، هاهو يخبرني الخبر الذي طالما انتظرت بعد غد سأخوض النزال الأول ،عمره اثنا عشر ، طرت فرحاً وحزنت أمه أخبرت أصدقائي ، لم انم يومين ولا أبالغ ، جاء الموعد رافقني صديقي الغالي أيمن ، أصر أيمن على الذهاب قائلاً نحن هنا يجب أن نهتم بأبنائنا لأنهم في غربة وهم أملنا ..
نزل بطلي للحلبة ، بدأ قلبي رحلته الإفريقية الراقصة ، حولي أهل المنافس وفي عيونهم تلمع آمالي نفسها ويرون في ابنهم ما أراه أنا في ابني، تمنيت لو كان حسام هنا ، أعلن الحكم (بوكس)، المنافس يكيل اللكمات لرأس طفلي الصغير ، أصبت بخيبة شعرت أنني ظلمت هذا الطفل كما تقول أمه تصبب عرقي البارد شعرت بدوار في رأسي وكأنني أنا من يتلقى اللكمات، وفجأة وبلا شعور صرخت ((لاكم ، لاكم )) مت شجاعاً ولا تعش جباناً ، وإذ بطفلي يلاكم ويسيطر ويكيل اللكمات بجرأة وقوة ، انتهت الجولة وبدأت الثانية وخاضوا الثالثة وأعلن الحكم فوز بطلي الصغير بنزاله الأول .. أما أنا ففقدت نصف جملتي العصبية وبعض الكيلو غرامات من وزني الزائد ..
عمره ثلاثة عشر وبعد أيام سيخوض نزالات الأشبال ، أراه بطلاً وإن لم يصبح كذلك فقد رأيت به رجولة زرعتها أنا بإذن الله ، رغم طفولة سنواته .. فقد استدعاه نادي للمحترفين هنا في روسيا للتمرين في صفوفه ووضعه مدربه الحالي (Makha Shermat ) المدرب الذي كان مسئولاً عن اليد اليسرى لبطل العالم للمحترفين الأسطورة الحية (Kostia Tszyu ) بمجموعة الكبار وهو الآن يتمرن جنب إلى جنب مع بطل العالم مرتين (Sergei Kharitonov) وأبطال روسيا للرجال.. ويعود يومياً وأثار الكدمات على يديه الصغيرتين فهم يلعبون كرة السلة للتحمية واللياقة كما كنا نلعب كرة القدم ..هل سيصبح حلمي حقيقة ؟؟
فقد شارك وسيم منذ عدة أيام بأحد بطولات موسكو المفتوحة وحصل على شهادة البطولة الأولى ،والميدالية الأولى وتوج في المركز الأول ..
هل سأرى هذا الشبل بطلاً ؟؟ كم أتمنى ذلك فقد سألته إذا ما أصبحت قادراً وملاكم متمكن أي علم ستحمل على ظهرك ؟؟ أجابني دون تفكير سوريا ، انفجرت بكاء من الفخر وحزنت أمه قائلة ولماذا سوريا ؟؟ ألا تتعلم في مدرسة روسية؟؟ وتتدرب في روسيا وأمك روسية وجنسيتك روسية ؟؟ أجابها أبي كان يحلم يوماً حمل علم سوريا وطننا الآخر ولم يستطع فهل أحرمه أن يحقق حلمه ؟؟ بأن يراني في مكانه ، أنا عربي الروح والانتماء روسي الجنسية وأبي عربي الروح والدم والانتماء عربي الجنسية التي سأحملها أيضاً و في سوريا أبناء وبنات عمة هناك هبة وفادي هناك نجاح وغدير ومحمد خير وغنى هناك يا أمي أخي الأكبر محروس الذي أعتز به هناك جدي وقبر جدتي رحمها الله ، هناك أبناء عمي وأصدقاء يحبوني هناك صديقي عمران الذي كان يأخذني للمسبح وهو من علمني حلاقة الذقن بالموس وسلمني ذقنه لأتمرن ،ألا يكفي هذا لأحمل اسمهم؟؟؟ طرقته أمه على رقبته مازحة( روح نام يا بطل روح ربوا وتعبوا )، أما أنا فقد فرحت من صميم قلبي عسى أقدم لبلدي يوماً بيدي ولدي ميدالية لم أستطع أنا تقديمها .. خرجت للشارع أتجول ليلاً والثلج قد غطى كل ملامح الأشياء بلونه الأبيض تجولت متنشقاً الهواء النقي وكلي ثقة أن وسيم أصبح رجلاً ، خلتُ أن حسام معي في جولتي وجلست على الكرسي الذي جلسنا عليه مع حسام يوماً ،تذكرت كلماته وأمنياتنا المشتركة ، تجولت طويلاً وعندما أحسست ببرد يتسلل لضلوعي دخلت متجراً يعمل على مدار الساعة اشتريت علبة سجائر ، حصلت عل دفئ بسيط وخرجت هائماً حالماً وكأني ذاهب غداً لأشجع بطلي الرجل في مباراته على الذهب الأولمبي !! عدت للمنزل وزوجتي تضحك ، سألتها سبب ضحكها الذي تحول لبكاء ممزوج ببسمة قائلة لا تطلب منه أكثر مما يستطيع ، شدتني من يدي لغرفة نومه ، رفعت عنه غطائه وقالت:
إنه مازال طفلاً انظر ليديه النحيلتين لا يوجد بهم مكان إلا وعليه آثار كدمات ولون أزرق ونيلي .. أرجوك دعه لي وسأجعل منه اقتصاديا مرموقاً أو راقصاً محترفاً ، وتابعت حديثها قائلة :
هل تعلم ماذا قال لي قبل أن ينام ؟؟ لقد أخبرني أن (بابا نويل) جاءه البارحة ليلاً وقال له أنه سيصبح في الأولمبياد البعد القادم بطلاً اولمبياً سورياً ، هل تتخيل إنه مازال يثق بوجود( بابا نويل )!!..
أجبتها نعم أتخيل ذلك وأثق أنا أيضاً ( ببابا نويل) ، فقد كان يجيئني ليلاً ليضع لي هداياه و كنت أنا أخبره عن أمنياتي التي كانت دائماً تتحقق..
سيصبح وسيم بطلاً وسيحمل علم سورية إن شاء الله وسيكون حسام أول المدعوين للاحتفال بتحقيق حلم مشترك ..
.