لم يبالغ الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري عندما قال في قصيدة له:
أنا في شمال الحب قلب خافق
وعلي يمين الحق طير شاد
غنيت لشرق الجريح وفي يدي
ما في سماء الشرق من أمجاد
فالواقع أن أعظم شعره يتوزع علي شعر الغزل وشعر الوطنية فهو شاعر لبناني كما هو شاعر ذو نزعة عروبية وهذه النزعة العروبية جديرة بالتنويه لأن شعراء كثيرين في زمانه كتبوا الشعر بالفرنسية، وعندما كتبوه بالعربية لم يكن أفقهم أفقاً عربيا
أما الأخطل فقد لقب نفسه بهذا اللقب تيمنا بالاخطل الشاعر النصراني الأموي الذي كانت تفتح له أبواب الخلافة ويتدلل علي الخلفاء الأمويين ويملأ قصورهم شعراً ومرحاً.
وفي كل مواقفه لم يطأطيء الأخطل الصغير رأسه لأحد من أجل مصلحة خاصة بل ظل مرفوع الرأس يذكر وطنه بما قدم له من خدمات وبسيرته النضالية من أجل عزته وكرامته:
لبنان ياوله البيان أذاكر
أم لست تذكر نجدتي وكفاحي
قبلت باسمك كل جرح سائل
وركزت بندك عاليا في الساح
أنا إن حجبت فليس ذاك بضائري وعلي الخواطر غدوتي ورواحي
وله في لبنان قصائد كثيرة منها هذه الأبيات:
لبنان كم للحسن فيك قصيدة
نثرت مباسمها عليها الأنجم
كيف التفت: فجدول متأوه
تحت الغصون وربوة تتبسم
وطن الجميع! علي خدود رياضه
تختال فاطمة وتنعم مريم!
وطن الجميع: هكذا عرفه أو أراده الأخطل تختال فيه فاطمة وتنعم مريم والأبيات تقدم هوية الأخطل الثقافية والقومية علي أفضل وجه.
هوية الأخطل هي هوية عربية بالدرجة الأولي وقد توضحت هذه الهوية علي أفضل ما يكون في قصائده التي كتبها في مناسبات قومية عديدة كان الأخطل يمثل لبنان عادة في المناسبات الوطنية في البلاد العربية وفي هذه المناسبات كان الاخطل سفيرا لبلد الأرز لدي إخوته العرب ومن أفضل نفثاته القومية ما نظمه في القضية الفلسطينية ومن أقواله فيها:
سائل العلياء عنا والزمانا
هل خفرنا ذمة مذ عرفانا
المروءات التي عاشت بنا
لم تزل تجري سعيرا في دمانا
ضجت الصحراء تشكو عريها
فكسوناها زئيرا ودخانا
مذ سقيناها العلي من دمنا
أيقنت أن معداً قد نمانا
إن جرحا سال من جبتها
لثمته بخشوع شفتانا
قم إلي الأبطال نلمس جرحهم
لمسة تسبح في الطيب يدانا
وله في الشام قصائد كثيرة:
سل عن قديم هواي هذا الوادي
هل كان يخفق فيه غير فؤادي
بردي هل الخلد الذي وعدوا به
إلاك بين شوادن وشوادي
قالوا تحب الشام قلت جوانحي
مقصوصة فيها وقلت فؤادي!
ومن أجمل قصائده قصيدته في رثاء شوقي في القاهرة يوم الحفل أو قبله، أصيب الأخطل بوعكة صحية كادت تحول بينه وبين إلقاء قصيدته تهافت علي غرفته في الفندق كبار أبناء الجالية اللبنانية في القاهرة سنة 1932 يطلبون منه أن يذهب إلي الحفل أنا لا أستطيع مغادرة الفراش يجب أن تذهب مهما كلف الأمر أنت الآن لبنان لا شخص أحضروا الدواء له.
بعضهم ألبسه ثيابه وحملوه حملاً إلي حيث يقام الحفل والشفاه تبتهل كي تسمح له الحمي بالوقوف علي المنبر وإلقاء قصيدته في أمير الشعراء شوقي الذي كان بينهما حب متبادل:
قال الملائك من هذا فقيل لهم
هذا هو الشرق هذا ضوء ناظره
هذا الذي نظم الأرواح فانتظمت
عقدا في سلك من خواطره
هذا الذي رفع الأهرام من أدب
وكان في تاجه أغلي جواهره
هذا الذي لمس الآلام فابتسمت
جراح ثم ذابت في محاجره
كم في ثغور العذاري من بوارقه
وفي جفون اليتامي من مواطره
وينهي الأخطل قصيدته في شوقي بهذا البيت:
سألتنيه رثاء خذه من كبدي
لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره!
وكان شوقي قد طلب من الأخطل مرة أن يرثيه إثر حادثة اصطدام له..
ويذهب الأخطل الصغير الي بغداد ليرثي شاعرها جميل صدقي الزهاوي بقصيدة من عيون شعره منها هذه الأبيات
بغداد ما حمل السري مني
سوي شبح مريب
جفلت له الصحراء والتفت
الكثيب الي الكثيب
وتنصتت زمر الجنادب
من فويهات الثقوب
يستاءلون وقد رأوا
قيس الملوح في شحوبي
والتمتمات علي الشفاه
مخضبات بالنسيب
يتساءلون عن الفتي العربي
في الزي الغريب
لم يخل عصر الأخطل من نقاد او حساد يأخذون علي شعره مآخذ شتي في هذه القصيدة التي رثي بها الزهاوي قالوا: من أين جاء بشارة الخوري أي الأخطل الصغيرة بالجنادب الي الصحراء؟ وعندما نقلوا للاخطل هذا المآخذ قال:
حسبنا الله ونعم الوكيل! لئن خلت الصحراء من جنادب فأين نجدها؟ أتريدونني ان انزل الي مستواهم وقد قلت فيهم مرة:
ورب أخ رأي فرحا بذمي فقلت رضيت ذمك لو شفاكا
أتطمع ان تحلق للثريا فتطفئها! عدمت إذن حجاكا!
والواقع أن الأخطل أبتلي في زمانه بطائفة من النقاد والشعراء الذين أخذوا عليه مآخذ كثيرة كالسرقة من الشعراء الفرنسيين وما الي ذلك من المآخذ وقد روي صلاح لبكي في كتابه لبنان الشاعر ان الاخطل الصغير أنشد مرة في منتدي الويست هول بالجامعة الأمريكية في بيروت قصيدته عروة وعفراء وهي قصيدة تقليدية موضوعها مأخوذ من تراث العرب فلما انتهي من الإنشاد بين تصفيق الجمهور وهتافه صعد المتكلم الثاني بعد الأخطل وكان هو الشاعر سعيد عقل وكان لا يزال في ميعة الصبا ويخالطه الغرور، وراح ينشر نظرياته حول الشعر وما قاله وهو يفخر من فتاة الاخطل: أنا لا أقيم وزنا لأديب أو شاعر قضي عمرا في الأدب والشعر ولم يصدر كتابا يحمل اسمه كما أشفق علي شاعر يغسل البحر قدميه ويكلل رأسه ثم ينتزع ذاته من هذه الجمالات رائحا الي الصحراء ليدبج قصيدة!
لم يخف مقصد سعيد عقل علي المستمعين فما إن انتهي
حتي راحوا يهتفون: نريد بشارة! نريد بشارة! وما انفكوا حتي صعد بشارة المنبر ليقول: لستُ بزجال لأساجل، إنما تذكرت موقفي من فتيان جاؤوا إليّ، فلما اكتمل ريشهم، أو ظنّوه، راحو يطارحونني العداء، فقلت فيهم:
ومعشرٍ حاولوا هدمي ولو ذكروا
لكان أكثر ما يبنون من أدبي
تركتُهم في جحيم من وساوسهم
ورحت أسحب أذيالي علي السحبٍ
وتمرّ الأيام ويظهر سعيد عقل بعد ذلك في مهرجان تكريم الأخطل الصغير قبل رحيله بسنوات قليلة، ويستعيد تلك الواقعة في منتدي الويست هول ليفسرها علي هواه، وهو انه لم يكن يقصد الإساءة الي الأخطل.. وكان الأخطل قد ذكر مرة عن خصومه، أو حسّاده:
كلما اطبق الغبار عليهم
حشرجوا تحته وماتوا اختناقا
كما كان يقول: انهم أصدقاء، انهم شعراء لبنان وأدباؤه، وما الأعمال إلا بالنيات!
إنها ألفة علي لين، وحنان علي بذخ، وروح للرضوي عندها أكثر من باب، وأبعد من مزار. هذا هو الأخطل الصغير الإنسان.
أخذ الكثيرون علي الأخطل انه كان شاعر مناسبات. والواقع ان المناسبة يومها كانت أفضل وسيلة إعلامية بيد الشاعر ليدلي برأيه في قضايا عامة كثيرة مطروحة. كان شاعر المناسبة ينطلق من هذه المناسبة، ليستغلّها وليدلي برأيه في المسائل العامة. وللأخطل الصغير قصائد اجتماعية كثيرة منها:
يا أمةً غدت الذئاب تسوسُها
غرقت سفينتها فأين رئيسُها
غرقت فليس هناك غير حطائم
يبكي مؤبنها، ويضحك سوسُها
تتمرغ الشهوات في حرماتها
وتعيث في عظماتها وتدوسُها
تعساً لها من أمةٍ ازعيمُها
خلاّدها، وأمينها جاسُسها
ويبرز هذا الحسّ الاجتماعي عند الشاعر في قصيدته الجابي وهو موظف الدولة الذي يحضر الي البيوت لجباية الضرائب والرسوم:
من الناعب قبل الفجر
من هذا علي الباب
أعيذ القبح من قبح
بأظفار وأنياب
أقبل الشمس في الآفاق
والعصفور في الغاب
وما زار الكري جفني
ولم تعلقه اهدابي
ولا غذيت اطفالي سوي همي واوصابي
عرف شعر الأخطل الصغير طريقه الي الغناء، وكان من بين من غنّي من شعره محمد عبدالوهاب واسمهان وفريد الأطرش وفيروز. وقد ربطته صلة خاصة بمحمد عبدالوهاب الذي تعرف اليه في القصر الجمهوري بعالية وكان بصحبة شوقي، عندما أبلغه أحد الحاضرين أن شاعراً يضمه الحفل اسمه الأخطل الصغير له قصيدة جميلة مطلعها:
الهوي والشباب والأمل المنشود
توحي فتبعث الشعر حياً
ومنها هذا البيت الشهير:
أأنا العاشق الوحيد لتلقي تبعات الهوي علي كتفيّا!
وعندما سمع عبدالوهاب القصيدة رغب بالتعرف الي الشاعر ونشأت بينهما بعد ذلك صداقة قوية أثمرت خمس قصائد غناها عبدالوهاب له، احداها وئدت في مهدها ولم تُذع سوي مرة واحدة من اذاعة القاهرة وكانت في تحية الملك فاروق..
وقد قرأ عبدالوهاب مرة قصيدة الأخطل: اسقنيها بأبي انت وأمي فابرق الي الأخطل طالباً منه أن يغنيها.. ويبدو ان اسمهان سمعت بهذا الخبر، فاستأذنت الأخطل ان تغنيها.. حار الأخطل، ولكن الذي حسم الأمر عنده هو سحر اسمهان ونفوذها في القلوب.. وعندما عاتبه عبدالوهاب بعد ذلك قال له: لقد تأخرت برقيتكم في الوصول فلم أعرف برغبتكم في غناء القصيدة. وكانت أسمهان قد طلبت القصيدة مني فلم أمانع..
ولم يصدق عبدالوهاب ذلك بالطبع..
ومن طريف ذكره الأخطل مرة: سامح الله محمد عبدالوهاب فقد أجبرني ان أصبح زجالاً مصرياً.. فقد كتبت له وبناء لطلبه: يا ورد مين يشتريك .. كنت وعبدالوهاب ذات صباح في حديقة الورد قرب منزلي، وبينما نحن نرشف القهوة، نظرت الي وردة وشاها الندي بأعراق ونقّطها باللؤلؤ. وكان عبدالوهاب قد طلب مني قصيدة لأحد أفلامه، فقلت:
يا ورد عاش الورد طاب الذي شمك
يا برعماً في نهر
شق الهوي كمّك
أُعجب عبدالوهاب بالمطلع ولكنه رغب الي الأخطل ان يجعل القصيدة شعراً شعبياً، فكانت يا ورد مين يشتريك ، وهي تجربة فريدة لأن القصيدة مزيج من الفصحي والعامية المصرية، ولم تتكرر التجربة فيما بعد.
علي ان الزمن يفعل فعله في الشعراء فيسنواتهم الأخيرة. إنزوي الأخطل في منزله في تلك المرحلة الصعبة من العمر، بات عوداً بلا وتر. هيكل نحيل لون بريق عينيه لظنه زائره شبحاً من الأشباح. يزوره أصحابه فلا يتعرف اليهم إلا بعد مذاكرة، فإذا خطر لأحدهم ان يروي بيتا من إحدي قصائده، انتفض فجأة واستعاد ذاكرته ليسردها دون تلعثم فكأنه اسطوانة الحاكي تخالها قطعة من جماد، فما أن تطلق الإبرة علي صفحتها حتي تتحول الي كائن ناطق.
لقد خبا رسول الغزل والكلمة الأنيقة كما تخبو الشمعة وقد أذاب اللهب جسمها.
علي أن الأخطل الصغير يبقي في الذاكرة الشعرية العربية شاعراً كبيراً. هو تراث لبناني له حرمة الأرز وروعة هياكل بعلبك، كما هو تراث عربي يضم الي ذخائر الفصحي مفاخر العرب.
وكان آخر ما كتبه هو هذه الأبيات الثلاثة التي ألقاها في حفل تكريمه عندما جاءت الي لبنان نخبة الشعراء العرب ليبايعوه بإمارة الشعر، فكان كل ما جادت به قريحته هذه الأبيات الثلاثة:
أيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري
من ذا يغنّي علي عودٍ بلا وترٍ
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت
رعت شبابي وخانتني علي كبري
كأنها ما ارتوت من مدمعي ودمي
ولا غذتها ليالي الوجد والسهر