خرج من البيت وكله أمل بلقاء أنتظره طويلاً، عدل من وضع سترته الثقيلة المصنوعة من فرو طبيعي وقبعته الشتوية، البرد قارص ومثلج وقد لبست الطبيعة الخلابة ثوبها الأبيض، أدار محرك السيارة وانتظر لترتفع درجة حرارة المحرك، أنفاسه تتحول لجليد يغطي زجاج سيارته ليحجب الرؤية تماماً ومازال ينتظر أن يبدأ جهاز التدفئة بأداء مهمته لينجلي الجليد، تحرك ببطء نحو الطريق الرئيسية، أخرج هاتفه النقال، بصعوبة بالغة وبأصابع شبه متجمدة طلب رقمها.
الو لودميلا صباحك سعيد، أجابته بصوت دافئ واثق صباحك سعيد معلم، قال لها هيا حضري نفسك أنا في طريقي إليك، أجابته باختصار حازم سأكون جاهزة بانتظارك، لودميلا تعمل لحسابه كسكرتيرة ومنسقة أعمال فهو لا يتقن كتابة وقراءة لغة البلد الذي أتى إليه منذ سنوات إلا إذا كانت الأحرف كبيرة وغير متصلة ،هو يستطيع الفهم والكلام وحتى يستطيع فك الأحرف ولكنه أمي الكتابة، الدفء تسلل لجسده، خلع قبعته وشاله الصوفي، وصل لأمام منزلها، رأته من النافذة فخرجت للطريق المغطى بطبقة كثيفة من الثلج، تقدمت نحو السيارة فتحت الباب وجلست بعد أن طرقت قدميها فيما بينها عدة مرات خارج السيارة لتتخلص من الثلج العالق بحذائها ليبقى صالون السيارة جافاً بعض الشيء، صباحك سعيد معلم، صباحك سعيد لودميلا، أجابها بدوره، هو في ريعان الشباب عمره ثلاثون وهي تصغره بعامين أو ثلاثة، أخرجت لودميلا شريط كاسيت لمطربها المفضل وضعته في مكانه، الأغاني تتوالى والثلج يهطل بغزارة.
كان قد خرج للطريق الرئيسي من جديد ،وجهتهم نحو مدينة ( نيجني نوف غرد) هذه المدينة التي تبعد حوالي 400كم عن العاصمة موسكو .
الطريق إلى هذه المدينة في الشتاء جميلة كالخرافة في حكايات الجدة، على طرفي الطريق غابات وبيوت ريفية خشبية توحي بالطيبة و الرومانسية، الثلوج تزيد الجمال جمالاً، كان قد وضع العلب الكرتونية في صندوق السيارة منذ البارحة، الصناديق تحتوي ماكياجات يجب إيصالها حسب العقد لزبائنهم في تلك المدينة.
وصلوا مرهقين جداً وفور وصولهم وقبل تناولهم الطعام توجهوا للمكان الذي قصدوه لتسليم البضاعة، فهم في مدينة غريبة ويخشون من أي طارئ، بداية التسعينيات لم تكن روسيا آمنة كما هو الحال اليوم، البضاعة صغيرة الحجم ولكنها غالية الثمن.
أتما عملية تسليم البضاعة بسهولة نسبية وانتهى الأمر، بدأت مشاورات ثنائية لاتخاذ قرار بالجواب على سؤال يحيرهما هل يعودا ليلاً في هذا الجو المثلج والطريق الصعبة رغم جودتها بعرضها ونوعية الإسفلت أم نقضي ليلتنا هنا؟؟.
لم يكن ذلك غريباً فقد قضوا العديد من الليالي في مدن غريبة وبنفس الغرفة وعلى سرير واحد دون أي اتصال جسدي فهي صديقة وهو يعاملها كشريكة عمل ليس إلا، قرروا المبيت والعودة في اليوم التالي، فذلك أفضل وأكثر أمناً، في الفندق وعلى طاولة العشاء، سألها مازحاً هل ترغبين بقليل من الكونياك؟؟، أجابته بعصبية لماذا تسخر مني ؟؟، ألم أقل لك أنني أستطيع شرب أي شيء طالما أنا برفقتك؟؟، إلا الكونياك!! وأنت تعلم أنني عندما أشرب كونياك تشتد كل حواسي نحو الرجال وأريد عندها رجلاً، ضحك مستفزاً، وأنا لست رجلٌ برأيك؟؟، أجابته ولكنني لا أنظر لك إلا كشريك عمل ويجب عدم خلط المتعة بالعمل، ضحكا معاً تناولا العشاء مع شيء من النبيذ وصعدا للنوم ودون أي كلمة أو أي تلميح ذهبت لودميلا للحمام كعادتها، أما هو فقد أنتظر دوره، انتهت من حمامها، تمنت له ليلة سعيدة وتوجهت للسرير المزدوج، هو أيضاً فعل فعلتها وتوجه للسرير المزدوج واستلقى للنوم.
في الصباح تناولا القهوة الصباحية مع فطور خفيف وتوجها نحو طريق العودة دون كلام، الموسيقى كانت سيدة الموقف فيروز في بداية الأمر ومن بعدها بدأت الأغاني الروسية تصدح.
ارتفعت حرارة الجو فتحول الثلج المتساقط لثلج مخلوط بالمطر، الطريق تملأها المياه المعجونة بالثلج وهو يزيد السرعة فقد مل الطريق ويريد الوصول بسرعة ، أغنية رومانسية رائعة ونشوة بفعل الموسيقى رافقتهم، نظرت إليه قائلة:
قف قف، سألها بتعجب، لماذا تطلبين التوقف؟، قالت عندي رغبة شديدة بالرقص!!، دون تفكير وبفرامل قاسية كادت تجرف سيارته عن الطريق لتلقي بهم إلى الهلاك أوقف السيارة بمحاذاة الطريق بصعوبة وبصعوبة أكبر وعلى عجل خرج من السيارة، غير مهتم للثلج المخلوط بالماء والملح على الإسفلت، الملح يبعثر على الطرقات لمنع حدوث إنزلاقات خطيرة.
مشى حول السيارة متجهاً للجهة الأخرى، تقدم ماداً يده المرتجفة ليمسك باب السيارة، تكاد أصابعه تلتصق بقبضة الباب الحديدية جراء اختلاف حرارة اليد عن حرارة الحديد، فتح الباب وتناول يدها وهو يدعوها للنزول، عانقته بشدة ورقصوا عل أنغام الموسيقى الخارجة من السيارة وهدير السيارات الكبيرة التي رشقتهم بالمياه.
تبدد الشعور بالبرد، ضحكا معاً وقد تبللوا من قمة الرأس وحتى الخنصر، كانت رقصة لا تنسى أبداً، عادا للسيارة وانطلق مسرعاً فقد كان على موعد في موسكو، سألته لما هذه السرعة ؟؟، أجابها هناك ثلاث ساعات تفصلنا عن العاصمة، وعندي موعد عمل اليوم هناك، علينا الوصول بسرعة، نظرت إليه مستغربة وصمتت..
الطريق عريضة والثلج على الطريق عاد يتحول لجفافه ليكسو الإسفلت بطبقة جليدية، لم ينتبه لذلك وعندما انتبه كانت قد أخرجت أوراق العمل لتقرأها وتدققها، أحس بتهوره وبما أنه حديث العهد بقيادة السيارة بمثل تلك الأجواء وسيارته من ذوات الشد الخلفي فقد انزلقت، محاولته السيطرة عليها زادت انزلاقها لرعونة الخبرة بمثل تلك الأحوال، بدأت مؤخرة السيارة تنزلق يميناً، المقود لا يغير شيء ، السيارة تنزلق بشكل جانبي، رفعت رأسها لترى ما يحدث فلم تفهم الأمر، مازال يحاول السيطرة والسيارة قد استدارت تماماً وانتقلت للجهة المعاكسة وهكذا حتى اصطدمت مؤخرتها بالكومة الثلجية على حافة الطريق لتتجاوزها وتسقط خلفها في الغابة بين الشجر، سألها عن حالها فلم تجب حاول الخروج من السيارة فلم يُفتح الباب، لقد أسرهم الثلج ضمن السيارة، نظر للباب الخلفي فوجد من الممكن الخروج منه، انتقل على عجل للخلف، فتح الباب وخرج، غاصت رجليه في الثلج حتى الركب، استحال مشيه، زحف زحفاً، خرج للطريق طلباً للنجدة والمساعدة وقفت سيارة من الحجم الكبير، عاد زحفاً ليربط الكبل الحديدي بسيارته، نظر إليها خاطبها لم ترد، سُحبت السيارة للطريق، حاول إخراجها من السيارة عبثاً، المسجل ما زال يعمل ولودميلا لا تتحرك، جن جنونه صرخ بها أن تستفيق ولا حياة لمن تنادي، الأغنية التي رقصوا على أنغامها تصدح من جديد.
بين يديها ورقة كتبت عليها بينما كان هو يزحف لطلب النجدة، أرجوك قبلني فأنا بحاجة لأن تقبلني، قبلها دون تردد شفاهها باردة زرقاء، قبلها مرة ثالثة وعاشرة حتى أحمرت تلك الشفاه لتنطق أجمل وأعذب كلمة سمعها أحبك، وليس هناك ثلاث ساعات أمامنا فقط للوصول بل الحياة كلها أمامنا..