أعتذر لإختياري مقالات طويلة
ولكن بإمكانك حفظ المقال في الجهاز وتجهيز كوب الشاي والرحلة مع القيم في المقال .. قد نتفق وقد نعارض
أتمنى لكم قراءة ممتعة
=================================================================
الحكمة في الشرق القديم .. موسى ديب الخوري
منذ القديم، تاق الإنسان إلى الحقيقة. وكان ذلك التوق ناجمًا عن دافع داخلي نحو تحقيق المعرفة والسعادة، وإلى يومنا هذا، مايزال الإنسان باحثًا عن حقيقة وجوده، منقبًا عن أسرار الطبيعة والكون، طارحًا على نفسه تلك الأسئلة الأولية التي تلخص الوجود وغايته: من أنا، كيف وجدت، ولماذا؟!
لئن كان الإنسان لايستطيع اليوم إلا أن يتمرد ويثور، معلنًا رفضه لكل تفكير منغلق، لا ينفتح في محاولة مخلصة لمعرفة الحقيقة، فإنه في غمرة بحوثه وفي خضم كثيف ومتشابك من الأسئلة والأجوبة، لايستطيع أيضًا التخلص من إلحاح سؤال يتصعّد من أعماقه فارضًا نفسه! يتعلق هذا السؤال بشكل مباشر بقدرتنا على المعرفة... معرفة الحقيقة.
ولكن، إن لم نكن قادرين على تحقيق فعل المعرفة فكيف نشعر بالحقيقة، في لحظات خاطفة، قريبة منا عميقة؟! أفلا نشعر بها في تغريد بلبل، أو في محبة الآخرين لنا ومحبتنا لهم؟!
بلى... بلى... نشعر بها كذا... كذا... قريبة منا، تملأ وجودنا. ومع ذلك يلح علينا السؤال أكثر، ما هي الحقيقة، أين تكون وكيف يكون شكلها؟! أهي في تلك الذرات أم في تلك الأكوان؟ أفي تلك الزهرة، أم في تلك الموجة، أم في ذلك الحجر؟!
بلى... بلى... ندرك أن الحقيقة موجودة في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بعد، في كل فعل وكل حياة وكل طاقة، وأنها أصل الأشياء كلها، ومع ذلك لسنا ندركها في جوهرها بعد، لأن شعورنا بها ما يزل غامضًا تكتنفه سحب أنانا السوداء، وضباب إشراطاتها.
يصعب علينا إذًا البحث عن الحقيقة، أو القيام بدراسة في المعرفة، أو طرح تصوّر كلي للوجود، مع كل الإشراطات، التي تكبّلنا، والتي تتمثل دائمًا بتقاليد وأعراف نابعة من أنا جمعية لكل مجتمع أو بيئة أو فئة. يظهر ذلك جليًا كتناقض كبير في بنى كل من هذه المجتمعات.
إن معظم الأفكار، التي تسود عالمنا، لا تقودنا في الحقيقة، طالما هي سجينة معتقدات ومناهج مقيّدة ومشروطة، وطالما هي ضائعة في فوضى التعدّد والكثرة، تحكمها قوانين الثنائية والتناقض! بينما لايتمّ انجذابنا نحو الحقيقة إلا بتكريس الوحدة في الرؤيا، والشمول في المعرفة، والتخلّص من كل قيد، لأن الحقيقة واحدة، شاملة، كلية. لذلك نبدأ أولى خطواتنا نحوها بالبحث عن مبادئ أولية ثابتة تعمّق شعورنا بها.
لقد اتخذ بحث الإنسان عن تلك المبادئ منحيين رئيسيين، فبينما بحث عنها بعضهم في مناهج وفلسفات وعلوم قائمة على المقارنة النسبية للظاهرات والأفكار، بحث عنها بعضهم الآخر في مكان لايخضع للشك والمقارنة، وتقبّلها دون محاكمات عقلية، لأنها وهبته السعادة الداخلية والشعور بالسلام.
هكذا، عرفنا منذ عصور سحيقة الفلسفات والعلوم والمناهج الفكرية المختلفة، وكان من بينها تلك التي عبّرت عن الحقيقة برمزية فائقة بعد أن خبرتها بتجارب داخلية عظيمة، تلك هي مناهج الحكمة التي، وإن اختلفت في طرق التعبير، فقد كانت تتماثل في الجوهر. ذلك أنها اعتمدت أساسًا لها شعور القلب بالمحبة، وحنين الروح إلى الانعتاق والتحرر.
فمنذ أقدم الأزمنة اقترن بحث الإنسان عن المبادئ الأولى بانتباه ويقظة لما يعتمل في أعماقه من شعور عظيم بالمحبة للإنسان والطبيعة. وكان ذلك الشعور المبدأ الوحيد الذي آمن به الإنسان. عرف أنه جوهر كل حكمة ومعرفة، والطريق الوحيد لتحقيق الحرية والسعادة والسلام.
هكذا، عرف الإنسان أن سرَّ الوجود كامن في المحبة. وأدرك أن المعرفة ليست فعلاً عقليًا بل فعل داخلي ينبع من محبّة الكل... وينتهي فيها.
هكذا، اكتشف الإنسان أن جوهر الحكمة يتمثل في شعورنا بالجمال والمحبة والحقيقة.
أما المناهج الأخرى فقد تاهت عن الحقيقة، وكان ضياعها ذاك ناجمًا عن اعتمادها منطقًا صعبًا يضيع في متاهات العقل غير المنضبط، وانفعالات النفس الجامحة. وبالتالي، لم تعبّر هذه المناهج إلا عن تماسك لغوي وعقلي لا دخل للشعور فيه ولا للتجربة الروحية، لذلك كانت لغتها تعني أكثر ما تعني كافة العمليات الخارجية القائمة على الأفعال المتبادلة المعبّرة عن الانفعالات والاضطرابات والإشراطات التي تسود على مرّ العصور، بينما كانت لغة الحكمة تعني الفعل الداخلي والعودة إلى أعماق النفس، والرمز الذي ينقل الفكرة ويعبّر عن الشعور بها.
نتناول في هذه الصفحات الحكمة من خلال الفلسفة الهندية التي عبّرت عنها بشفافية ورقّة تميّز بهما الشعب الهندي، وعمق هو عمق الحقيقة نفسها.
نتناول في القسم الأول من المقالة مميزات الفلسفة الهندية، ونعرض لبعض المقتطفات من أناشيد رج فيدا والأوبانشاد، ثم نعرض باختصار للبوذية كمثال على مناهج الفلسفة الهندية. أما القسم الثاني، فيعتبر مدخلاً بسيطًا إلى السرّية التي قامت عليها فلسفات الشرق القديم.
القسم الأول
مرت الفلسفة الهندية خلال تطورها في أربع مراحل رئيسة انتهت عام 1700 ق. م:
أولاً: مرحلة الفيدا، وتقع تقريبًا بين 2500 و600 ق. م. وتعدّ عصر تطور فلسفي. أما مبادئه، التي عُرضت في الأوبانشاد، فتُعتبر لهجة العصر إن لم تكن النموذج الدقيق لتطور الفكر الفلسفي الهندي في ذلك الوقت.
تتضمن آداب هذه الفترة أربعًا من الفيدا هي: رج فيدا، ياجور فيدا، ساما فيدا وأثاروف فيدا. ولكل منها أربعة أقسام تعرف بـالمانتراس والبراهماناس والأريناكس والأوبانشاد. ويعد الأوبانشاد حصيلة تأمل الفلاسفة، ونجد فيها الميل نحو التوحيد.
والفترة الثانية لتطور الفكر الفلسفي الهندي هي مرحلة الأناشيد التي تقع بين 500 أو 600 ق.م إلى 200 ب. م. وتشمل هذه الفترة أيضًا التطورات الأولى للبوذية والجانسية والساقية والنفسنافسية. أما البهاغفادغيتا، وهي من أناشيد المهابهاراتا، فتعتبر أحد النصوص الثلاثة الرئيسية للأدب الفلسفي الهندي. وتُعتبر هذه المرحلة من أخصب الفترات الفلسفية الهندية وغيرها أيضًا من الفلسفات كاليونانية والصينية. وقد وجدت في هذه الفترة فلسفات أخرى كمذهب الشرق والمذهب الطبيعي المادي إلى جانب البوذية والجانسية والمناهج الأخرى التي عرفت بعد ذلك بالمناهج الهندوسية المستقيمة والمناهج غير المستقيمة، وتبلورت في مناهج منظمة.
أما الفترة الثالثة فهي مرحلة السوترا، وتعود بتاريخها إلى أوائل العهد المسيحي، ونجد فيها فكرة إدراك الذات. وتتشكل المناهج الهندية الستة الموجودة في السوترا أثناء هذه المرحلة من: 1 - نيايا أو الواقع المنطقي، 2 - فايسيكا أو التعددية الواقعية، 3 - سامكيا أو الثنائية المتطورة، 4 - اليوغا أو التأمل المنظم، 5 - بورفا ميماما أو البحث المفسر للفيدا أو المتعلق بالسلوك، 6 - أوتارا ميماما أو البحث المتأخر للفيدا أو المتعلق بالمعرفة. وتسمى أوتارا هذه الفيدانتا التي تعني نهاية الفيدا.
أما الفترة الرابعة فهي المرحلة المدرسية. وقد كتبت فيها التعليقات على السوترا.
إن هذا العرض البسيط والمختصر جدًا لتاريخ الفلسفة الهندية، يضعنا أمام التجربة الفلسفية العميقة والواسعة التي تطورت عبر سنين طويلة في الهند، والتي كانت، بمختلف مناحيها، تتصف بميزات رئيسة يمكننا توضيحها باتجاهات العقل الفلسفي الهندي أو بوجهات النظر التي أوضحها الهنود في فلسفتهم:
1 - تتركّز قيمة الفلسفة الهندية في التفكير الروحي، ويعتبر الدافع الروحي هامًا في حقلي الفلسفة والحياة. وتدرك الفلسفة الهندية الإنسان روحيًا في طبيعته وتهتم بمصيره الروحي. وهكذا تكون الفلسفة الهندية كلّها، من بدايتها في الفيدا إلى الوقت الحاضر، قد جاهدت لتحقيق إصلاح اجتماعي ـ روحي في البلاد، فكانت المسائل الدينية ولا تزال سبب عمق وقوة وغاية العقل والروح في الفلسفة الهندية.
2 - تتيقن الفلسفة الهندية من علاقة الفلسفة والحياة، فالفلسفة الهندية تبحث عن الحقيقة التي يمكن أن تعاش وتحقَّق. كلّ معتقد يعمل على إثارة قلب الإنسان وتحويل طبيعته الشخصية. ففي الهند تعاش الفلسفة لأنها فلسفة حياة. فليس هدف الهندي إذًا أن يعرف الحقيقة المطلقة، بل أن يحقّقها ويصبح واحدًا معها.
3 - تتصف الفلسفة الهندية بموقفها وتقرّبها الباطنيين من الحقيقة: الفلسفة هي معرفة الذات. فالفكر، وليس الموضوع، هو موضوع اهتمام الفلسفة الهندية. وهكذا يعتبر علم النفس وعلم الأخلاق فرعين للفلسفة، وهما أكثر أهمية من العلوم التي تدرس الطبيعة المادية فقط. فقد شعر الهنود، منذ وقت طويل جدًا، أن روح الإنسان الداخلية هي المفتاح أو السر الوحيد لحقيقته وحقيقة الكون.
4 - يقود هذا الاهتمام بالباطن إلى المثالية، وتظهر مثالية الفلسفة الهندية، وخاصة الهندوسية منها، بميلها إلى التوحيد. فالحقيقة واحدة وهي روحية! وإذا ركّزنا تفكيرنا على ما تحتويه الفلسفة الهندية ككل، دون الانتباه إلى فروعها المختلفة، كمدرسة كارفا المادية، نجد أنها تشرح الحياة والحقيقة على ضوء مثالية التوحيد.
5 - تعتمد الفلسفة الهندية على الحدس كوسيلة وحيدة للمعرفة على الرغم من أنها تعتمد على العقل أيضًا. فالفلسفة الهندية لاتقدم الحقيقة للإنسان، بل تطلب منه تحقيقها. إن الكلمة التي تعني الفلسفة في الهند هي "دارسا" المشتقة من كلمة "درس" التي تعني الرؤيا، والرؤيا تعني أن تكون لنا تجربة حدسية للموضوع، وتعني أن نحقق هذه التجربة الحدسية في شعورنا وإحساسنا لكي نصبح واحدًا معه. بالتالي يستحيل علينا أن نعرف طالما أن الفكر والموضوع متباعدان.
6 - هناك صفة أخرى للفلسفة الهندية وهي تقبّلها للمراجع القديمة. وعلى الرغم من اختلاف مناهج هذه الفلسفة في عودتها إلى سرورتي القديمة، فهي تقف - المستقيم مذهبيًا وغير المستقيم ماعدا كارفاكا - موقفًا نبيلاً وتتقبل البصيرة الحدسية التي تحدَّث عنها أصحاب الرؤى الأقدمون، حتى لو كان هؤلاء هندوسًا أو كاتبي الأوبانيشاد، أو بوذيين أو مؤسسي الجانسية أو غيرهم.
إن احترام الهنود الشديد لمفكريهم الأقدمين، ولو أنه يبالغ فيه، ينبع من اعتقادهم بأن الذين يعرفون الحقيقة هم أولئك الذين يحققونها، ولذلك يوجهون أنظارهم نحوهم. لقد أبدعت الهند عقائد كثيرة ومناهج فلسفية عديدة، على الرغم من احترام الهنود لحكمائهم الأقدمين. فالفلسفة الهندية ليست معتقدًا دينيًا مذهبيًا ثابتًا، بل هي فكرة تدرَك من خلال مناهج عديدة.
7 - وأخيرًا، توجد الأسطورة التي تمثّل ضرورة لروح وطريقة الفلسفة الهندية؛ ويعود هذا القول إلى رج فيدا عندما اعتقد أصحاب الرؤى أن الديانة الحقّة تتضمن كل الديانات: فالله "واحد، لكن الناس يدعونه بأسماء مختلفة". وتتّصف الفلسفة الهندية بتقربها الفعلي من المظاهر المختلفة للتجربة والحقيقة. فالدين والفلسفة، والمعرفة والإدراك، والسلوك والحدس والعقل، والإنسان والطبيعة، والله والإنسان، والظاهر والخفي، تنسجم كلها من خلال الميل "التجمعي" للفعل الهندي.
عصر الفيدا
من أناشيد رج فيدا
تعني كلمة "فيدا" الحكمة، وهي تشير إلى أن الطريق الذي سار عليه حكماء الفيدا كان طريق من يبحثون عن الحقيقة. وتعتبر رج فيدا، المؤلفة من أناشيد، أحد أقسام الفيدا الأربعة، ولايمكننا أن نستغني عن دراستها عندما نأتي إلى الفكر الهندي.
إن رج فيدا تمثل الحقبة الأولى لتطور الإدراك الديني، وتدل على دهشة العقل إزاء الكون. وقبل الانتقال إلى أمثلة من هذه الأناشيد، لابد من الإشارة إلى سرّية ما جاء فيها، وبالتالي لايمكننا فهمها حرفيًا، ولذلك لابد من التأويل وفهم رموزها لإدراك ما ترمي إليه.
إلى سوريا (الإله-الشمس)
1 - لينظر الجميع إلى الشمس التي
بأشعتها العالية، تظهر الإله
الذي يعرف كل المخلوقات المولودة.
2 - أشعتها تضيء إلى مدى بعيد
وتلتمع في الأعالي مثل نار لاهبة
وتضيء بيوت الناس الكثيرة
4 - أيتها الشمس، يا صانعة النور
إنك تسرعين في حركتك ويراك الجميع
وتضيئين الفضاء المنير!
7 - الأفراس السبع التي تجر عربتك
تجلبك إلينا، إيها الإله الذي يرى إلى أمد بعيد
يا سوريا، ذات الشعر المتلألئ.
8 - إن الشمس قد لجمت الأفراس السبع اللامعة
البنات اللامعات لعربتها،
وتسرع هذه الأفراس الملجمة.
9 - عبر الظلام ننظر إلى الأعلى
إلى النور العالي، ونحن الآن
نحلق لنصل إلى سوريا
الإله بين الآلهة، النور الأسمى.
أنشودة الخلق
1 - لم يوجد الوجود أو اللاوجود عندئذ:
ولم يوجد هواء أو فضاء قبله.
ماذا كان مخفيًا؟ أين؟ وبحماية من؟!
وهل كانت هناك مياه لايعرف عمقها؟
2 - والموت لم يوجد عندئذ، ولا الحياة الأبدية،
ولم يكن هناك ما يدل على الليل والنهار
وبقوته الذاتية تنفس الواحد بدون هواء
ولاشيء وجد قبل ذاك.
3 - الظلام كان مخبأ بالظلام بادئ الأمر
وبدون حدود مميزة، كان كل هذا مياهًا
وما صار كان مغطى بالفراغ
والواحد بقوة الحرارة كان
4 - الرغبة دخلت الوحدة منذ البداية
وكانت البذرة الأولى، وكان الفكر هو النتاج
والحكماء وهم يفتشون في قلوبهم عن الحكمة
اكتشفوا حدود الوجود في اللاوجود.
5 - أشعتهم أطلقت النور عبر الظلام
لكن، هل كان الواحد فوق أم تحت؟
القوة الخالقة كانت هناك، وهكذا القدرة الخصبة:
وتحت كانت الطاقة، وفوق كان الدافع.
7 - لا أحد يعلم متى كان الخلق
وفيما إذا كان هو أنتجه أولاً
هو الذي يخطط في السماء العليا
هو وحده يعرف
أو يمكن أن لايعرف، وهو في غبطته.
الأوبانشاد
الأوبانشاد هي الأجزاء الختامية للفيدا وأساس فلسفة الفيدانتا، وكما يقول ماكس موللر: "هي منهاج وصل فيه التأمل الإنساني قمته العليا". وقد سيطرت الأوبانشاد على فلسفة وديانة الهند لمدة ثلاثة آلاف سنة تقريبًا.
أخذت كلمة "أوبانشاد" عن "أويا" التي تعني قريب، و"ني" التي تعني أسفل، و"شاد" التي تعني يجلس. وكانت جماعات من التلامذة يجلسون قرب معلمهم ليتعلموا منه الحقيقة التي تقضي على الجهل.
تقلل الأوبانشاد من أهمية الاحتفالات الفيدية والواجبات المذهبية إزاء الخير المطلق المنبثق عن تحقيق الذات. وتشدد كثيرًا على التمييز بين الطريقة الأنانية الضعيفة والجاهلة التي تقود إلى الكفاية المؤقتة، وبين طريق الحكمة التي تقود إلى الحياة الأبدية، لأن الصلاة تكون باكتشاف الحقيقة والدخول إلى ماوراء الذي في داخلنا، وذلك بتصعيد الوجدان. إن الأوبانشاد تحدثنا عن الطريقة التي يصل بها الفرد إلى الحقيقة المطلقة من خلال رحلة داخلية، أي بتصعيد داخلي، وتحدثنا عن مراحل التصعيد في بعض الأحيان.
من أوبانشاد كانا
فشل اللذة والجهل، حكمة المعرفة الفضلى
1 - الفضيلة شيء، والموت شيء آخر
وكلاهما مع اختلاف أهدافهما، شرّ يفيد الإنسان
ومن الحكمة أن يتعلق الإنسان بأفضلهما
ويفشل إن هو اختار اللذة.
الشجرة التي تضرب بجذورها في براهمان (طريق الوصول إلى براهمان)
1 - جذورها في الأعلى، وأغصانها في الأسفل
شجرة التنيا هذه، الدائمة!
ذلك الجذر هو النقاء حقًا..
ذاك هو براهمان
إنه حقًا يسمى الخلود
وعلى هذا الجذر ترتكز كل العوالم
ولا أحد بإمكانه أن يعبر إلى ما وراءه
حقًا هي الروح.
6 - إن بغية الإحساس غير الممتدة
وثروتها أو غيابها
هي أشياء تأتي إلى الوجود منفصلة
الحكيم يدرك هذا ولايحزن
9 - إن شكله لايرى، ولايراه أحد بالعين أبدًا
إنه تشكل في القلب، في القلب وفي العقل
ومن يعرف هذا... نجله.
10 - عندما تتوقف الحواس الخمس
وعندما تتوقف معرفة العقل
ولا يتحرك الذكاء.. ذلك هو الطريق الأسمى.
11 - هذا ما يعتبرونه اليوغا
التي هي السيطرة التامة على الحواس
يصبح الإنسان عندئذ غير مشوش
اليوغا، هي حقًا البداية والنهاية.
12 - إننا لاندركها أبدًا بالكلام
أو بالعقل أو بالنظر
وكيف يمكن إدراكه
إلا بقولنا.. هو موجود؟
14 - عندما تتحرر كل الرغبات التي تسكن قلب الإنسان يصبح الفاني خالدًا!
عندئذ يصل إلى براهمان!
15 - عندما تقطع كل عقد القلب
هنا على الأرض
يصبح الفاني خالدًا!
هكذا يكون الإرشاد بعيدًا.
من أوبانشاد مونداكا
الطريق إلى براهمان
5 - الروح، يمكن الحصول عليها بالحقيقة والتقشف
بالمعرفة اللائقة، وبممارسة المحبة باستمرار
إن الزهاد، عندما قضوا على نقائصهم، شاهدوه
نقيًا مشعًا ضمن أجسادهم
8 - كما أن الأنهار التي تسيل وتصب في المحيط
تختفي وتترك اسمها وشكلها
هكذا من يعرف، إذ يتحرر من الشكل والاسم
يذهب إلى الشخص السماوي، الأعلى من العالي.
9 - من يعرف براهمان.. يصبح براهمان.
من أوبانيشاد تاتييري.. وتتميز بوضعها للتعاليم الخلقية.
نصائح عملية إلى تلميذ.
1 - بعد أن يعلم المعلم التلميذ.. يرشده أيضًا:
تكلم الصدق
مارس الفضيلة
لاتهمل دراسة الفيدا
يجب ألا يهمل الإنسان الحقيقة
يجب ألا يهمل الإنسان الفضيلة
يجب ألا يهمل الإنسان الازدهار
يجب ألا يهمل الإنسان التقدم
2 - يجب ألا يهمل الإنسان التعلم والتعليم
يجب ألا يهمل الإنسان واجباته نحو الآباء والآلهة
كن كمن تكون أمه إلهة
كن كمن يكون والده إلهًا
كن كمن يكون معلمه إلهًا
كن كمن يكون ضيفه إلهًا
هذه الأعمال التي لاشر فيها
يجب أن تعمل هي.. لاغيرها
هذه الأعمال التي نعتبرها جيدة.. يجب أن تحترمها
من أوبانشاد مايتربي
براهمان اللامتناه وطريقة اليوغا لتحقيق الوحدة التامة معه
34 - سامسارا٭ هي فكرة الشخص ذاتها
بجهد يجب أن يطهرها
الإنسان يصبح ما يفكر فيه!
هذا هو السر الأبدي
... ... ... ...
بهدوء الفكر
يهدم الإنسان الأفكار الشريرة والحسنة
بذات رصينة، معتمدة على الروح
يتمتع الإنسان بغبطة دائمة!
لو أن الإنسان يركز فكره بشدة على براهمان
لتحرر من العبودية والقيد!
عندما نجعل العقل بلا حركة،
ونحرره من الأسى والكسل
وعندما نصل إلى حالة لاعقلية...
هذه هي الحالة السامية!
العقل في الواقع هو للبشرية
وسيلة العبودية والتحرر معًا!
هو للعبودية إن كان يخضع للأشياء!
وللحرية إن كان ينعتق منها.
البوذية
للبوذية تاريخ طويل في الهند، تبدلت فيه عقائدها على مر الزمن. ويشكل تاريخ البوذية تعاليم بوذا وأمثال هينايانا الأول ومهايانا المتأخر. تعتنق البوذية بعض أفكار الأوبانشاد وتكسبها اتجاهًا جديدًا.
لم يضع بوذا اتجاهًا جديدًا للميتافيزياء والأخلاق؛ لكنه اكتشف من جديد قانونًا قديمًا، وجعله ملائمًا لأحوال الفكر والحياة الجديدة. إن حقائقه النبيلة هي أنه يوجد ألم، وأن للألم سببًا، وأنه يمكن التغلب عليه، وأنه توجد طريقة لتحقيق ذلك.
ويفترض بوذا أن الحياة جدول من الصيرورة، لا يوجد شيء دائم في الذات المادية والشيء يتعلق بالشيء الآخر ويعتمد عليه.
يعود سبب الألم إلى الجهل والقلق الأناني. وعندما نجتنب الجهل والنتائج العملية للأنانية، نصل إلى النرڤانا، التي توصف بشكل سلبي بأنها التحرر من الجهل والأنانية والألم، وبشكل إيجابي بأنها الوصول إلى الحكمة والرأفة.
هكذا، يشدد البوذيون على أن وجودنا بحدّ ذاته ألم. لكن إذ نعي أن مكونات الكائن وشكله زائلة... نتحرّر. إن وعي الجوهر المكنون في أعماق كل كيان في الوجود هو الانعتاق من كل محلية ومركزية يشكلها ذلك الكيان. ويتم ذلك بأن نعي أنه لا توجد ذات في الجوهر لأنه متعال، محايث، يكون في الكل، وهو الكل، ويتسامى عن فعل الكل!
قد تتوضح لنا الفكرة أكثر لو استعرضنا جزءًا من نظرية اللاروح أو الذات. وهذا الجزء سيتخذ هيئة حوار بين ملك وحكيم. فبينما كان الحكيم نياجاسانا جالسًا يتحدث إلى تلامذته وصل الملك ميلندا وألقى التحية، وبعد أن قدم مجاملات الصداقة، جلس إلى جانبه بكل وقار. وأعاد نياجاسانا التحية، وبتحيته كسب قلب الملك ميلندا.
وتكلم الملك ميلندا موجهًا كلامه إلى نياجا سانا الموقر كما يلي:
- "كيف اسمك أيها الموقر؟"
- "اسمي نياجاسانا، يا صاحب الجلالة، ويدعوني كهنتي نياجاسانا، وإن كان الأهل يعطون الأسماء لأولادهم، فليست هذه الأسماء إلا طريقة تعداد أو اصطلاح أو نداء أو اسم. وفي نياجاسانا لا توجد ذات." وتكلم ميلندا الملك إلى نياجاسانا الموقر كما يلي: "بهانت نياجاسانا، إذا لم تكن توجد ذات، فمن يجهزكم أيها الكهنة بالمتطلبات الكهنوتية: الأرواب والطعام والشراب والدواء؟ من الذي يحفظ النصوص؟ من يقدم نفسه للتأمل؟ من يحقق الطرائق والثمار والنرڤانا؟ من الذي يهدّم الحياة؟ من الذي يأخذ ما لم يعط؟ من الذي يشرب الخمرة المسكرة؟ ومن يقترف الجرائم الخمس؟ في هذه الحال، إذا لم توجد ذات، لن تكون للأعمال الخيّرة أو الشريرة نتائج أو ثمار، ولن يوجد من يفعل أفعالاً لأجل الجزاء أو عدمه. ويا بهانت نياجاسانا، لايكون قاتلاً من يقتل كاهنًا، ولن يكون لكم، أيها الكهنة، أي معلّم أو ملهم."
"عندما تقول، "أيها الملك، إنهم يخاطبونني باسم نياجاسانا، لكن ما هو نياجاسانا هذا؟ أرجوك يا سيدي، قل لي هل إن شعر الرأس هو نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك."
- "هل إن شعر الجسد هو نياجاسانا؟"
- "لا أيها الملك.
- "هل الأظافر، الأسنان، الجلد، اللحم، العضلات، العظام، مخ العظام، الكليتان، القلب، الكبد، الطحال، غشاء الصدر، الرئتان، الأمعاء، الأحشاء، الصفراء، البلغم، القيح، الدم، العرق، الدهن، الدموع، اللعاب، البول، ودماغ الرأس هي نياجاسانا؟"
- "لا أيها الملك"
- "هل إن بهانت يشكل نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك"
- "هل الإحساس نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك"
- "هل الانطباعات نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك"
- "هل الوعي نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك"
- "هل إن بهانت والشكل والإحساس والإدراك والانطباعات والوعي متحدة هي نياجاسانا؟"
- "لا، أيها الملك"
- "هل إن نياجاسانا هو شيء ما بالإضافة إلى شكله وإحساسه وإدراكه وانطباعاته ووعيه؟"
- "لا، أيها الملك"
- "يا بهانت، على الرغم من أنني أسألك بعد تفكير، لكنني أفشل في اكتشاف نياجاسانا، حقًا إن نياجاسانا هو مجرد صوت فارغ. ما هو نياجاسانا، ما هو الذي يكون هنا يا بهانت؟ إنك تقول شيئًا باطلاً، وتكذب: "لا يوجد نياجاسانا".
عندئذ تحدث نياجاسانا إلى الملك ميلندا كما يلي: "أيها الملك، أنت ملك لطيف. أرجوك أخبرني، هل أتيت راكبًا أم ماشيًا؟"
- "إني أتيت في مركبتي"
- "أيها الملك، إن كنت أتيت في مركبة، قل لي ما هي المركبة. هل المركبة هي العمود؟"
- "لا، يا بهانت"
- "هل المحور الذي تدور عليه المركبة هو المركبة؟"
- "لا يا بهانت"
- "هل الدولاب هو المركبة؟"
- "لا يا بهانت"
- "هل جسم المركبة هو المركبة؟"
- "لا يا بهانت"
- "هل النير هي المركبة؟"
- "لا يا بهانت"
- "هل المهماز هو المركبة؟"
- "لا، يا بهانت"
- "هل الدولاب والعمود وجسم المركبة والنير واللجام وعصا الحوذي والمهماز هي المركبة؟"
- "لا يا بهانت"
- "هل المركبة شيء ما بالإضافة إلى العمود والدولاب.. الخ؟"
- "لا، يا بهانت"
- "أيها الملك مع أني أسألك بتمعن وتفكير، لكني أفشل في اكتشاف المركبة. حقًا إن كلمة مركبة صوت فارغ، أية مركبة هي هذه؟ أيها الملك إنك تقول الباطل وتكذب: لا توجد مركبة. ممن تخاف أن تكذب أيها الملك؟ أصغوا إلي يا سادتي، أيها الكهنة، ميلندا الملك يقول ما يلي: أنا أتيت في مركبة. وعندما سئل: أيها الملك. إن كنت أتيت في مركبة، قل لنا ما هي المركبة فشل في تقديم المركبة. هل بإمكاني أن أسلم بما يقول؟
وعندما قال هكذا صفق الكهنة لنياجاسانا الموقر الذي وجه كلامه إلى الملك قائلاً:
- "الآن، أجب أيها الملك إن كنت تستطيع". عندئذ تحدث الملك ميلندا إلى نياجاسانا الموقر قائلاً:
- يا بهانت أنا لا أكذب، كلمة "مركبة" هي طريقة للعدّ فقط، هي اصطلاح ونداء وتعيين ما، هي اسم للدولاب والعمود..الخ"
- "إنك تفهم المركبة جيدًا أيها الملك. وبالطريقة ذاتها، وبالنسبة لي يكون نياجاسانا طريقة عد واصطلاح ونداء وتعيين مناسب ومجرّد اسم لشعر رأسي ولدماغ رأسي، وشكلي وإحساسي وإدراكي، وانطباعاتي ووعيي، لكنني، في المفهوم المطلق، لست ذاتًا".
وقالت الكاهنة فاجيريا أمام الملك ما يلي: "كما أن كلمة "مركبة" تعني اتحاد الأعضاء لتشكل كلاً، كذلك عندما تظهر الجماعات إلى الوجود، نستعمل عبارة الكائن الحي".
هكذا، ترشدنا البوذية إلى الاستنارة بمعرفة جوهر الوجود، وليس مظاهره. فعندما ندقق في عناصر الكينونة واحدًا واحدًا، نكتشف أنه في المفهوم المطلق لا توجد وحدة حية أو ذات لتشكل من ثم قاعدة كتعابير مثل "أنا أكون" أو "أنا". وبمعنى آخر، يوجد الشكل والاسم في المفهوم المطلق فقط، والبصيرة التي تدرك هذا تدعى معرفة.
عندما يعرف الإنسان الأشياء كما هي، يكون في طريقه إلى نكران الأشياء، فلا ينفعل بها ويوقفها، هكذا يعرف الذكي الحقيقة.
إذًا، الألم نتيجة الثنائية. والخير مؤلم كالشرّ. ولا نتحرّر من الشرّ ما لم نتحرّر من الخير أيضًا. أن لا نرى ما هو ملذّ، مؤلم. لكن، إذ نوقف فينا الرغبة نتغلب على الملذّ وغير الملذّ. هكذا تتولّد السكينة فينا. وعندما تنطفئ كافة مواضيع المعرفة فينا تموت المعرفة، ونغتبط.
القسم الثاني
يعد هذا القسم من الموضوع مدخلاً بسيطًا إلى المفاهيم الأساسية التي علّمتها المدارس السرّية أو السرّانية، والتي تلاقت في كثير من النقاط حول فهمها للوجود ومكانة الإنسان فيه. وهو بذلك يقدم لنا محاولة بسيطة لإلقاء نظرة شمولية على الكون والإنسان.
تقوم الحكمة، أو السرانية، على مقولة أساسية، ألا وهي أن كل حياة هي حياة إلهية في جوهرها، ومعرفة الله، هي رؤيا هذا الفعل: أن كل حياة هي إلهية في الجوهر! ومن هنا ترتكز المدارس السرانية عمومًا على معرفة أسرار وجود الواحد في الكثرة، وعلى الصيرورة التي أبدع بها الواحد التعدد اللانهائي للوجود، كما واستمرارية هذه الصيرورة في عودتها نحو وحدتها الأولى. إنها الطريق المقدسة التي على الإنسان عبورها ليحقق كما وجوده!
عندما يتجلّى الواحد، يفيض منه الاثنان، لأن كل تجلّ له قطبان: هكذا يصبح الواحد اثنين، مع بقائه واحدًا. إنه في الوقت ذاته متجلّ وغير متجل. لكنه في تجليه له مظهران: الوعي والطاقة. إنهما كوجهي ميدالية، نرى أحد الوجهين دون الآخر، لكن لا يعني ذلك أنه غير موجود. بالتالي لا يمكن أن توجد طاقة دون وعي. وهكذا تتجلى الألوهية في كل مظهر حياة.
ذلك هو فيض التعدد من الواحد. ولسنا ندري كيف تم ذلك، ولا نستطيع تصوره. لكنه تم، في تطور نازل للطاقة الأولى، معطيًا الحياة والوجود. ووجودنا ما هو إلا لانهاية من النزول عبر درجات سلم يتكوّن باستمرار من فعل ذلك التطور.
إن تلك العوالم، إذ تتدرج في نزولها، تنغلق فينا، نحن الإنسانية التي على عاتقها يقع الفعل المقابل الممثل بالتطور الصاعد مرة أخرى حتى الاتحاد بالله والغيبوبة فيه.
وهذا الصعود والانفتاح والتطور لا يتم إلا من خلال وعي وتجاوز لقوانين الوجود ممثلة في الكارما والعودة.
أولاً: الكارما والعودة
كانت حقيقة الكارما معترفًا بها دائمًا في الشرق، غير أن الفضل يعود إلى البوذيين الذين منحوها التفسير الكوني.
تعني كلمة كارما "الفعل". فكل فعل ينجم عن سبب ويقضي نتيجة، ولهذا فالكارما بمعناها العام تعني قانون السببية.
أما معنى كلمة كارما الأساسي، فهو أن الوجود كله من صنع طاقة كونية، وإجراء كوني وحركة كونية، وأن تكوين الأشياء يتحقق بتلك الحركة - عدم التكوين أيضًا يعد خطوة نحو التكوين - وكل ذلك سلسلة مستمرة ترتبط فيها كل رابطة بالماضي اللامتناهي بروابط لامحدودة، والكل يدار بعلاقات محددة بحيث يكون المستقبل نتيجة للعمل الحاضر.
وتكمن الأهمية الأخلاقية في هذا القانون في حقيقة أن وجودنا كله نابع من طاقة موجودة داخلنا، وهي الطاقة التي أوجدتنا. فكما أن سبب الطبيعة كان الطاقة، يتوجب علينا، امتثالاً للناموس الكوني، أن نجعل هذه الطبيعة تحقق تلك الطاقة مرة أخرى. ويتم ذلك بإيقاظ الذات النوعية. عندها يمتلك الإنسان حرية الفعل ويصبح خالق الكارما.
إن الرغبة هي مولدة الفعل. لكن عندما تختفي الرغبة، فإن الطاقة الإلهية وحدها تصبح مولدة الفعل. وتلك هي غاية الوجود.
هكذا، تكون الكارما قانون القوانين التي يخضع لها وجودنا، إنه يرمز إلى التفاعل بوصفه التوازن أو رد الفعل الملائم لأي فعل.
ويصف الكاتب البوذي غارما تشنغ قانون القوانين في العبارة التالية:
عندما نعبر عنه بالمقياس الكوزمولوجي، يكون قانون القوانين، وهو قدرة فعل، قوة مذهلة تسيّر الكون والحياة. وعندما نعبر عنه بالمعنى الخلقي، يكون قانون القوانين قانونًا لامشخّصًا يحدث النظام الأخلاقي، ويعفي من المكافآت الطبيعية ومن الثواب والعقاب. وعندما نعبر عنه بالمقياس الميتافيزيائي، يكون قانون القوانين طاقة إبداعية تحدثها الأفعال الجماعية التي تعود لجماعات معينة، ويدعم قانون القوانين نظام ووظيفة نمط خاص تطبقه هذه الجماعات. وأخيرًا يظل هذا القانون سرًا ومعجزة تتملص من إمكانيات الفهم البشري.
أما نظرية العودة فهي تفهم على أنها الكارما على المستوى الإنساني، إنها القانون الذي من خلاله يكون التطور الروحي ممكنًا، إنها ارتحال الروح عبر حيواتها، والتجسّد مرات كثيرة، حتى تحقق الروح غاية وجودها على كوكب الأرض.
تشتق كلمة التجسد ثانية Reincarntion من المبدأ Re الذي يعني مرة ثانية، ومن الكلمة اللاتينية Carnis التي تعني اللحم أو الجسد. وتعني الكلمة بمجملها لبس الجسد مرة ثانية.
لقد آمن الشرق بهذه العقيدة لأنه رأى أنها قانون طبيعي، وأنه كان على الإنسان أن يحصد ما يزرع، فيتوجب عليه أن يعود مرات كثيرة حتى يحقق غاية وجوده على الأرض فيتحرر وينعتق.
إن العودة لا تفسر لنا فقط اختلاف المواهب والشروط والظروف بين البشر، بل هي تعيد لله عدله الفائق وللإنسان قدرته على المعرفة والحرية.
ثانيًا: العوالم والأجساد
يقول شري أوروبندو في إحدى قصائده:
لو أن الفكرة عانقت القوة التي أنجبت العوالم
لو أنها عانقت الفرح باعتباره ابن الفكرة
فهذا يعني أن الإله يحمل في ذاته فرحًا لا يحصى
يحمل فرحًا بأن العوالم والأكوان
آخذة بالولادة!
هكذا، يحدثنا أوروبندو - هذا المتصوف العظيم - ببساطة وعمق عن ولادة العوالم والأكوان، عن فيض الطاقة الإلهية بقوة فرح لا نهائي أين منه فرح فنان بلوحته، أو موسيقي بموسيقاه. إنه فرح الله بالتجلي، بالوجود والإنسان، بالفيض والدفق السرمدي الذي تتجلى به الطاقة الإلهية عبر عوالم لا نهائية في استمرارية تشابك وتداخل لا انفصال فيها؛ ذلك هو فرح الله الذي يتجلى فينا، تلك هي محبته!
تنص العقيدة السرية للحكمة على وجود سبعة عوالم. والعدد (7) يشير إلى الكمال، واتحاد عالمي الروح والمادة. فالعوالم الثلاثة العليا تشير إلى عالم الروح والاستغراق في الحقيقة، أما العوالم الأربعة الدنيا فتشير إلى المادة، إلى الكثافة، إلى الإحساس والانطباعات والانفعالات والعواطف والصور.
تبدأ تلك العوالم، من الأعلى، بالمستويين الإلهيين وهما: عالم ADI وعالم Anupadaka، يليهما عالم Atma أو الوعي الفوقي، ثم عالم Buddhi أو اختفاء العقل Manas، ثم العالم العقلي kama، ثم العالم النوراني، وأخيرًا العالم المادي.
إن هذه التسميات لا تشرطنا إذا انتبهنا إلى أنها تمييز شامل وعام لمستويات لانهائية من الفعل، وإذا وعينا أيضًا حقيقة هذه العوالم وانعكاساتها فينا من خلال أجسادنا المماثلة والموافقة لها، والشرارة الإلهية المنغلقة في تلك الأجساد والكامنة فيها.
إذًا، الإنسان في الجوهر كائن روحي يتكون كذلك من سباعية: ثلاثة عليا أو ذات روحية، ورباعية دنيا أو شخصية. والثلاثية المسماة ذاتًا هي التي تعود وتتجسد. وتتألف من Buddhi، Atma، وmanas، أما الرباعية فتتألف من العقلي والنوراني والأثيري والفيزيقي.
يعتبر الجسد الفيزيقي هيكل الذات. وكما يحيك العنكبوت نسيجه ليقع فيما بعد أسير هذا النسيج، هكذا نشكل جسمنا العصبي والحواس الخمس المتولدة عنه، ونوقع أنفسنا في مصائد أنفسنا، أي في العالم الخارجي. ولا تكون النتيجة سوى ملذات عابرة وآلام ترافقها، فعلَّة الجهل إذن هي أننا نحدّ أنفسنا بالجسد الفيزيقي الذي لا يعمل إلا كأداة أو خادم. إننا لا نأكل لنحيا، بل نحيا لنأكل. وبالمقابل يوجد الجسد لأجلنا ولا نوجد من أجل الجسد، والألم ينتج من اعتبار صحة العكس.
بالتالي يشكل الجسد عائقًا أمام فعل تصورنا. ولكي نتجاوز ذلك علينا أن نحبه. وإذا أحببناه فإننا نستطيع فهمه وترويضه وجعله أكثر لطافة، وبذلك نستطيع به، ومن خلاله، تحقيق الإلهي فينا، لأنه يجب ألا ننسى أن المادي أيضًا إلهي في الجوهر، وتلك هي غاية العودة: تحقيق عالم الروح في عالم المادة.
أما الجسد النوراني فهو ليس إلا أداة أيضًا، وكذلك العقلي؛ فالذات الإلهية تظهر بمستويات مختلفة في الإنسان المادي من أجل الحركة، النوراني من أجل الحس، والعقلي الداخلي من أجل التفكير، وهذه بمجموعها تشكل الشخصية الإنسانية. والمستويان النوراني والعقلي تفعل فيهما قوانين السببية كما على المستوى الفيزيقي.
وكما أن الجسد المادي مجبول من المادة، كذلك الجسدان النوراني والعقلي مجبولان من مادتي العالمين النوراني والعقلي.
يمكننا تلخيص عمل الجسد النوراني بنقاط ثلاث رئيسية:
1. أنه يحول إلى أحاسيس. كل الاهتزازات التي تصلنا من العالم المادي عبر حواسنا.
2. ثم يضفي عليها المشاعر والعواطف.
3. ومن ثم، تحت وطأة الذاكرة، ينتقي الإحساس المقبول من الإحساس غير المقبول.
ومن هنا تنشأ الرغبة. وعند هذه النقطة يصعب علينا التفريق بين النوراني والعقلي التحتي. وتبدأ المشكلات هنا أيضًا عندما نبدأ بالرغبة أو باختيار ما نرغب إذ نقع في مطب الإشراط. ولكي نتجاوز ذلك، ومع بقاء ما هو مرغوب وما هو غير مرغوب، علينا ألا نرغب ولا نرفض بالمقابل. ما يعيق تطورنا ليس الشعور بل التعلق بالشعور. نحن لعبة لما نرفض وأحرار لما نقبل! وما نريد ألا نفعله نفعله. إذًا، التحرر من الرغبة واللارغبة هو التطور والانفتاح على الحقيقة أكثر. ونحن لا نستطيع تقبل أفكار جديدة إذا كنا مشروطين بأفكار سابقة.
تتم الحرية من الرغبة بوعي الرغبة نفسها. وتتم الحرية من الرفض بوعي الرفض نفسه. إننا نحب أشخاصًا معينين ولا نحب آخرين، بل ثمة أشخاص نحب منهم صفات معينة ولا نرغب فيهم صفات أخرى، فهل هذه هي المحبة؟! بالطبع لا. هناك محبة أصفى وأعظم، وإلا فلماذا لسنا في سلام دائم؟!
عندما لا يعود هناك رفض تختفي الرغبة، وبذلك يصبح جسدنا النوراني أداة قادرة على تحقيق عملها في الاتحاد بكل مظاهر الوجود والحياة دون رغبة أو رفض! يتم ذلك بمحبتنا للكل!
أما الجسد العقلي، فهو الجسد الثالث المكون لشخصيتنا. ويمكننا القول إنه ألطف من النوراني، وحاذق أكثر. لذلك تكون الأفكار أشد من الأحاسيس، ونستطيع ضبطها أكثر من المشاعر والعواطف.
إن العقل دوامة من الأفكار فإذا استطعنا تركيزها، أو توجيهها، فإننا بذلك نضبط هذه الطاقة، لكننا لانحقق الوعي إلا بتجاوز الفكر ذاته.
التأمل هو ما يأتينا عندما يكون الفكر صامتًا. عندما نحاول أن نتأمل لا نصل فورًا إلى الغيبوبة، لكن المهم أن نصل إلى الغيبوبة عن الرفض وعن الرغبة وعن المحاكمات. فإذا كان هناك جهد لوقف الأفكار، فهذا يعني أنها لا تزال موجودة إذًا. علينا أن ننظر إليها كأنها لا تهمنا، ولا تعنينا، وهكذا نبدأ بالتحرر منها، ونكون قادرين أكثر على تقبل الطاقة الإلهية والشعور بها.
إن عالم الأفكار هو عالم الاختلافات والتناقضات، بينما عالم المعرفة الصافية هو عالم الوحدة والجوهر. عندما نعي أن الاختلاف في جوهره وحدة، نتحرر.
"إن كل معرفة ضرورية،... ولكن طالما أننا لا نعلم إلا جانبًا من المعرفة، فلنعمل على أن يكون الأكثر أهمية، والآن الأكثر أهمية لنا، هو أن نعرف أنفسنا".
إنها الطريقة الوحيدة التي تساعدنا على الانفتاح على عالم الروح، والتخلص من كل أنانية، والتحرر من نطاق الفردية ومن كل رغبة وكل إشراط على مستويات العقل والنفس والجسد.
لئن كان الحديث عن العوالم والأجساد يظل في نطاق الوصف، فليس الحديث هو الغاية. كيف نعبر إذًا عن عوالم الروح وعن الشرارة الإلهية فينا؟! إن هذا التعبير لا يتم إلا من خلال تطبيقنا للمبادئ السامية والسعي إلى تحقيق المعرفة على المستويات كافة، العقلية منها والأخلاقية والروحية.
ثالثًا - التطور
إن الفيض له حقل هو التطور. والكارما هي القانون الذي يسهر على تحقيق الانسجام في هذا الحقل. ولما كانت المحبة هي الوجه الديناميكي الداخلي للحقيقة، وهي المعرفة في حركة وفعل، فإن التطور هو المحبة عندما تفعل فينا. التطور هو تحقيق المحبة!
إن الوعي يتطور ليصبح الوعي المنفتح. والعقل يتطور ليصبح العقل المستنير. والمادة تتطور لتصبح المادة المتألهة.
فأن ننفتح على الحقيقة يعني أن نعي ماذا يحدث على كل مستوى أي أن ندخل في حالة طنين resonance وتناغم مع الكون على كل المسويات وفي كل لحظة.
إن الأنا تشكل لنفسها فكرة، وتتمركز على هذه الفكرة، وعندها نرى الكون كله من خلال هذه الفكرة أو هذه الأنا. ولكن، إن كان التطور يتم فقط باتجاه الحقيقة، فإن هذا التطور هو فعل وعي لذاته. إذًا، لا يوجد سوى ممثل واحد في الكون وفي الإنسان، ولا يتم هذا التطور بوجود الأنا والمركزية، لأن الإنسان عندها لن يعي الكل، وسيدرك كل شيء من خلال أناه ومركزيته.
عندما يبدأ الإنسان بالتطور، عندها، لا نستطيع القول إنه يفعل شيئًا، ولن يفعل شيئًا، يكفي أن يترك الأشياء تفعل، أن يترك الطاقة الإلهية تفعل فيه.
وهكذا، لا نعود منشغلين بتطورنا الخاص، لن نكون متيقظين للتطور الذي يفعل فينا وحولنا وهكذا تكون حياتنا قد تبدلت تمامًا.
إن من يوجد على درب التطور، لايوجد من أجل نفسه أبدًا، بل فقط من أجل الآخرين. إنه ينسى نفسه من أجل خدمة الإنسان. إنه ريشة في يد الله، بواسطتها يعبر عن مشيئة الله ههنا على الأرض. إنه في الوقت نفسه شعلة حية من المحبة التي تملأ قلبه فيملأ بها الكون.
خاتمة
هكذا يصلنا عبر آفاق الماضي صوت القرون. إنه صوت حكماء الهملايا ونساك الغابات، وهو الصوت الذي وصل إلى كافة الشعوب والحضارات، وهو الصوت الذي نادى به بوذا والعمالقة والروحيون الآخرون، ويُشبَّه هذا الصوت بالجداول الصغيرة التي تنبع وتتدفق وتأتي من الجبال، فهي تختفي حينًا، وتظهر حينًا آخر، تتدفق أقوى، حتى تتحد في النهاية بفيضان واحد ضخم. إن الرسائل التي تأتي إلينا من المرسلين والمرسلات والنبيين والنبيات والقديسين والقديسات، في كل الجماعات والأمم، تتحد في صوت عال يكلمنا عن الماضي.
ذلك هو صوت الحكمة التي أيقظت فينا صوت الداخل، وعلمتنا أن ننصت له، فقادتنا بذلك إلى التجربة الداخلية، وأعلنت أن جوهر الدين هو التجربة الروحية، وأن غاية وجودنا هي تحقيق تلك التجربة.
لقد كان شرقنا القديم غنيًا بتجارب روحية عظيمة، قامت عليها فلسفات وديانات كثيرة، عبرت بمناهج عدة ولكن برمزية فائقة، متحدة في الجوهر ومتماثلة عن الحقيقة الواحدة.
إن علاقة الإنسان الروحية بالله تتجلى بالمحبة، بالشعور بالقدسية والصفاء، وهو شعور يأبى أن يتخلى عنه الإنسان إذا ما أدركه وحققه. كانت كلمات أفلوطين الأخيرة:
كنت أنتظركم قبل أن يرحل ما هو مقدس فيّ لكي يتحد بذاته في الكون.
ويقول أوغوسطينوس:
وإذ ذكرت أن أعود إلى نفسي، دخلت إلى أعماق روحي. وإذا كنت دليلي دخلتُ وشاهدت بعين روحي، وفوق عين روحي، وفوق عقلي، النور الذي لا يتبدل.
وتقول القديسة كاترين:
الله كياني، حياتي، قوتي، غبطتي، هدفي، وسروري.
ويقول المتصوف الهندي الكبير شري أوروبندو:
لا ريب في أني لا أبتغي عناصر أرضية
ولكم أتذوق طعم ثمار الجنة ونباتاتها
لأنك أبدلت حاجات غرائزي
من متعة بشرية إلى مفاجأة ربانية.
إن كل هؤلاء، وكثيرون غيرهم، إذ يعاينون نور الحق في تجربة روحية، لا يستطيعون التخلي عنه، لأنه يغمرهم ويجذبهم إليه بمحبة.
يقول "وليم جيمس" في كتابه تنوع التجربة الدينية:
إن التغلب على كل الحدود العادية بين الفرد والمطلق هو العمل الصوفي العظيم. في الحالات الصوفية نصبح واحدًا مع المطلق، كما نصبح واعين لوحدتنا. هذه هي الأسطورة الصوفية الدائمة والمنتصرة والتي نادرًا ما تتبدل أو تتأثر بالمعتقدات والبلدان. ونجد في الهندوسية أو في الأفلاطونية أو في الصوفية أو التصوف المسيحي أو الإسلامي، ذات الملاحظة تتكرر دومًا، حتى أنه يوجد إجماع في الأقوال التصوفية، إجماع يصر أنه ليس للصوفية وطن أو يوم ولادة. إنها دومًا تتحدث عن وحدة الإنسان والله.
إن صدور الله وإظهار معنى الحياة ولغزها في روح الإنسان هو جوهر الشهادة الصوفية، وجوهر كل حكمة وكل دين.
هكذا يكون تحقيق البصيرة هو هدف المحاولة الدينية، وأما الوسيلة فهي حياة أخلاقية وفن التأمل، وإنه لغاية الجمال والسعادة أن نعرف وجودنا، ونحيي الكامن فينا، أن نشعر المحبة تتفتح في أعماقنا، أن نبتعد عن الشر، محققين الفضيلة والوعي.
إن التطور النازل ينزع إلى التركيز في الجوهر مفصحًا بذلك عن الحقيقة في لانهاية صدور مستمرة، مقدمًا لنا سلسلة الوجود الكبرى: فلنغتبط، ولنفرح بوجودنا، ولنشعر بكل ما فيه من عمق. لنشعر العلاقة الإنسانية ما بيننا، وعلاقتنا مع الله في المحبة.
===========
المقال منقول عن موقع معابر