كان الوقت
فجرا عندما وقف على شرفة منزله يتأمل , وبعد دقائق معدودات نادى بأعلى صوته
زوجته التي كانت تحضر القهوة الصباحية
, كما اعتادا منذ زمن طويل
أتته مسرعة لظن منها أنه بحاجة
لشيء ما ولكن فاجأها قوله :
-انظري كم جميلة تلك السهول وهي مزدانة بالقصور والبيوت الأنيقة أليست الحياة جميلة ؟!
ردت بارتباك ظاهر : نعم إنها جميلة
ولم
تستطع ان تضف كلمة واحدة , حيث حزنا عميقا
ملأ قلبها دون ان تدري السبب
شربا
قهوة الصبح وتبادلا أطراف الحديث فكانت بكل
رشفة تنظر عبر عينيه وتلاحقهما بانتباه شديد علّها تعرف وتدرك أين ينظر
وبما يفكر حدة بينما هو لم يرمقها بنظرة احدة , إنما كان يجول ببصره عبر الأفق البعيد , يتأمل كل جهة من الجهات المحيطة به
على وكأنه يبحث عن شيء ما أو يناشد ضالة
مفقودة
تناول آخر
رشفتين من قهوته مسرعا جدا وحمل
مفاتيحه واتجه مسرعا كمن يهرب
من خطر ما نحو الباب مودعا
دونما أن يسأل كالعادة ما طلبات البيت وما احتياجات الأسرة
لهذا اليوم
دار بزهن الزوجة ما تبادلاه من حديث في
الصباح , فكانت مشاعرها تتراوح بين السرور حينا كون زوجها حدثها صباحا عن نيته بإقامة فرح لآخر أولاده , ورغبته برؤيته
رجلا كاملا وانه يود الاطمئنان عن كل
العائلة وناقشها بما يلزم من أمور و تحضيرات
وتعود لتختلط المشاعر بريبة وشك
حول سبب قلق زوجها الذي لاحظته عليه اليوم ورأته بكل نظرة من نظرات عينيه
فهل هو في ضائقة مادية يا ترى؟!
هل هناك مشاكل عمل ؟ أم فعلا يريد الاطمئنان على آخر أفراد العائلة وأخذ استراحة
حقيقة بعد زمن من الجهد والتعب ؟ مال الذي أيقظه هذا الصباح قبل الفجر بقليل ؟ ولما كان على هذه الحال من الضجر
؟
أسئلة
وأسئلة تزاحمت في فكرها منغصة عليها تكملة أعمالها بنشاط كما كل يوم
تفعل
استقبلت عدّة اتصالات روتينية , حيث الجارات
يطمئنن عنها ويدعونها لصبحيه عند إحداهن كما اعتدن النسوة ان يفعلنّ ببعض الصباحيات ولكنها اعتذرت متذرعة بأعمال البيت الكثيرة
وفي
الحقيقة كان فكرها شاردا في مكان آخر لا تعرف أين هو ولا ما يجري فيه
انتظرت
كثيرا أن يأتيها اتصال من أحد أبنائها أو
حتى من زوجها ولكن لم يرد أي خبر من أحد
وهي المعتادة على سماع أصواتهم جميعا صباحا
من حين لآخر يطمأنون عنها ويسألون عن مشاريع اليوم و تحركاته
فما
كان إلا ان بادرت بالاتصال هي إلى
عمل زوجها وكانت قد قاربت الواحدة ظهرا و
ولكن أتاها الرد من زميل عمله بأنه لم
يحضر اليوم , قفز قلبها مرتعبا وارتعدت روحها فأسرعت بطلب أكبر أولادها ليحرك أحدهم ساكنا في معرفة سبب غياب الوالد
وكان
الرد على غير المتوقع :
-
أماه نحن جميعا في المشفى أبي بحالة خطر
لم تدر كيف ذهبت ولا كيف وصلت ولم تعد ذكر إن أوصدت
الأبواب وراءها أم لم تفعل , بعد أن
أوصد رد ابنها كل أبواب الدنيا
بوجهها وجعل صباح ذاك النهار ليلا ,كل ما
علمته أنها وصلت المشفى بشعر مشعث وثياب
منزلية بالية ووجها يعلوه شحوب ملفت وعينيها غائبتان في عالم الأفكار تحملان
آلاف إشارات الاستفهام
وقفت أمام أولادها
الأربعة وكل منهم يسند حائطا أو بابا في بهو المشفى
سألت دون أن تسأل.... وجاءها الجواب دون ان يجيبوا ,
فدموعهم كانت أوضح إجابة عن كل ما تريد
معرفته والاستفسار عنه
أشاحت بوجهها بعيدا وهي تصرخ منتحبة :لا يا ربي غير معقول .. خرج والدكم على رجليه سليم معافى
والآن سيعود محمولا بالأكفان إلى منزله ؟
أسرعوا إليها
... تجمعوا حولها ...احتضنوها جميعا وهم يرددون عبارة : لك طول العمر يا أمي سيبقى ذكره في قلوبنا
لكنه أسئلتها
سبقت كل أجوبتهم وتعازيهم: كيف ؟ متى ؟ وأين
؟ هل علمتم شيئا عن ظروف وفاته؟
-
منذ الصباح الباكر هوى عن الجسر المؤدي إلى عمله بسيارته وكان الحادث مروعا
·
كيف ؟ أكان مسرعا؟
-
لا يا أمي كان الطريق خاليا وكانت سرعته معقولة لكن كل
من رآه قالوا انه كان شارد الذهن مشتت النظرات والتفكير
تذكرت حينها ما قاله الأب صباحا حين وقف
على الشرفة وحليت الدنيا بعينيه ,
عرفت سبب اضطراب قلبها بعد حديثهما وقلقها
طيلة النهار
نعم إنه الموت أيقظه باكرا ليجعله يرى كل شيء جميل في
الكون قبل ان يفارقه وليحثه على الاستعجال بمشاريعه وخطواته , أما كان يجيل بصره
في الأفق بارتباك واضطراب ظاهر ولكن عن
ماذا كان يبحث ؟؟؟
هل رأى الموت فعلا مقتربا منه فكان يبحث عن طيفه الذي
أخذ يخادعه بالأختباءهنا حينا وهناك أحيان غلى أن شتت ذهنه شرد أفكاره واضطربت
روحه فكان يروح ويجيء بنظره كالتائه ودون نتيجة ها هو قد ألقى القبض عليه ووضعه
سجين القبر طيلة الدهر
انهارت قواها عندما رأته في نعشه مغمض العينين شاحب
اللون فاقد الحياة , ولكن جمعت تفكيرها لتدرك أن الإنسان لا يموت مرة واحدة عندما يفقد تنفسه ونبضه وحركته
بل يموت مرات كثيرة عندما يعرف ان ذاك
الملاك الأسود مقترب منه لا محالة وشريك ليلته
هذا اليوم بلا شك فتكون الميتة عندئذ ألف ميتة وما أصعبه من شعور
مرّ شريط حياتهما كحلم سريع بتفاصيله أمام عينيها , فانهمرت منهما الدموع الغزيرة
لتدرك بوداعه ان الأيام القادمة ستكون مرة ومالحة , ملوحة دموعها مرارة العيش من
دون جزء من حياتها وروحها .