لا يختلف قراء ومتابعين الأساطير على أنها متشابهة إلى حد كبير وقد أشار فراس السواح إلى هذا التشابه بكتابه لغز عشتار
ومعظم كتاب التاريخ المستشرقين على وجه الخصوص قد اشارو إلى هذا التقارب مع أختلاف المسميات
وتبلغ الدهشة لكل من يتابع التاريخ القديم الذي بدأ جلياً نوعاً ما مع الدولة السومرية ( عدة مدن لم ترق إلى القيادة المركزية ) وتلاها الأكاديون والبابليون ونظرائهم المصريين .. تبلغ الدهشة للقارئ حينما يكتشف ذاك التقارب الرهيب بينها وبين أفكار الديانات السماوية
لا بأس من القراءة الموجزة ووجدت هذا المقطع لفراس السواح في مغامرة العقل الأولى عله يعطي صورة للقارئ أو اضاءة على تلك الحقبة من التاريخ
أترككم مع كأس شاي ومن يدخن فليجهز علبة السجائر ويرحل مع هذا النص ومصدره فراس السواح وهو منقول من أحد المواقع
ومن المؤكد لغير المطلعين على تلك الحقبة من التاريخ سيلفت نظرهم اسم مردوخ إله الرياح الذي بات إلهاً تعدى اختصاصه وبات إلهاً على خمسون إله !
وهو ما يعرف عن السومريين باسم انيليل ( اسم مركب من آن - إله الأرض ليل - المنطقة بين السماء والأرض "الهواء")
أتمنى لكم رحلة اسطورية ممتعة
=======================================================================================
أسطورة الخلق البابلي - التكوين البابلي
تتوضع أفكار البابليين في الخلق والتكوين بشكلها الأكمل في ملحمة التكوين البابلية المعروفة باسم ( الانيوما ايليش)وتعتبر هذه الملحمة إلى جانب ملحمة جلجامش من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م أي قبل ألف وخمسمئة سنة تقريبا من كتابة الإلياذة وتدوين اسفار التورات العبرانية وقد لقيت كثيرا من الإهتمام والدراسة من قبل علماء المسماريات والانتروبولوجيا والميثولوجيا والثيولوجيا.
فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة والذي يعطينا نموذجا لأدب إنساني متطور فإنها تقدم لنا وثيقة هامة عن معتقدات البابليين ونشأة آلهتها ووظائفهم وعلاقاتهم كما أنها تقدم لدارسي الديانات المقارنة مادة غنية بسبب المشابهات الواضحة مع الاصحاحين الأول والثاني من كتاب التوراة.
وجدت الملحمة موزعة على 7 ألواح فخارية أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر آشور بانيبال ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح الفخارية في شتى المواضيع الأدبية والدينية والقانونية وما إليها.
جرى الكشف عن ألواح الملحمة تباعا منذ نهاية القرن الماضي وحتى نهاية الربع الأول من القرن الحالي.
وإسم الملحمة مأخوذ كما هي عادة السومرريين والبابلين من الكلمات الإفتتاحية في النص فاينوما ايليش تعني : عندما في الأعالي فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء وفي الأسفل لم يكن هناك أرض.لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في 3 آلهة (( ابسو)) ((تعامة)) ((ممو)) .
فـ أبسو هو هو الماء العذب وتعامة زوجته كانت الماء المالح أما ممو فيعتقد بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى ولكني أؤيد الرأي القائل بأنه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها.
هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون وهي العماء الأول الذي إنبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات.
وكانت آلهتها الثلاثةتعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق ، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية لا تمايز فيها ولا تشكل.
ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لآبسو وتعامة الهان جديدان هما (لخمو) و(لخامو) وهذان بدورهما أنجبا(أنشار) و (كيشار) اللذين فاقا قوة أبويهما قوة ومنعة ، وبعد سنوات مديدة ولد لأنشار وكيشار إبن أسمياه (آنو)وهو الذي صار فيما بعد الها للسماء ، وآنو بدوره أنجب (أنكي ) و (أيا) وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعد إلها المياه العذبة الباطنية ولقد بلغ إيا حدا من القوة والهيبة جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الآلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب والحيوية والتي كانت في فعالية دائما وحركة دائبة ، مما غير الحالة السابقة وأحدث وضعا جديدا لم تألفه آلهة السكون البدئية التي عكرت صفوها الحركة وأقلقت سكونها الأزلي . حاولت الآلهة البدائية السيطرة على الموقف وإستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثا، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء للعنف،فقام آبسو بوضع خطة لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرة أخرى وباشر بتنفيذ الخطة ، رغم معارضة تعامة التي ما زالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات آبسو،خاف الآلهة الشباب وإضطربوا، ولم يخلصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم الإله أيا الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذة سحرية رماها على الإله آبسو الذي راح في سبات عميق ، وفيما هو نائم قام أيا بنزع العمامة الملكية عن رأس آبسو ووضعها على رأسه رمزا لسلطانه الجديد.كمانزع عن آبسو أيضا اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه ثم ذبحه وبنى فوقه مسكنا لنفسه . كما انقض على ممو(الضباب المنتشر فوق المياه الأولى)المعاضد لآبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب، ومنذ ذلك الوقت أصبح أيا إلها للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار ويتحكم به بمقدار ، وهو الذي يعطي االأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب وهو الذي يفجر الأرض عيونا من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت يشاهد ممو فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن أيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام ولد الإله مردوخ أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرة أخرى من بطش الآلهة القديمة ، ورفع نفسه سيدا للمجتمع المقدس وكيف لا ؟؟؟وهو إبن إنكي الذي فاق أباه قوة وحكمة وبطشا. وكما كان الإنقاذ الأول على يد الإب أنكي كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الإبن الشاب مردوخ.
فتعامة التي تركت زوجها آبسو لمصيره المحزن دون أن تهرع لمساعدته وهو يذبح على يد الآلهة الصغيرة تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير على نفس الطريق لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها بل زادها إنتصارها ثقة وتصميما على أسلوبها في الحياة.
وهنا إجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرضتها على حرب إولئك المتمردين على التقاليد الكونية فوافقت وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه 11 نوع من الكائنات الغربية التي أنجبتها خصيصا لساعة الصدام (أفاعي وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة، جعلت عليها الإله (كينغو) قائدا بعد أن إختارته زوجا لها وعلقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة وصحبها فاجتمعوا خائفين قلقين ، وأرسلو أيا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية.
لكن أيا عاد مذعورا مما رأى ، فأرسلو آنو الذي مضى وعاد في حالة هلع شديد.
أسقط في يد الجميع وأطرقوا حائرين كل يفكر في مصيره الأسود القريب وهنا خطر لكبيرهم أنشار خاطر جعل أساريره تتهلل إذ تذكر مردوخ الفتى القوي العتي ، فأرسل في طلبه حالا، وعندما مثل بين يديه وعلم بسبب دعوته أعلن عن إستعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على إعطائه إمتيازات خاصة وسلطات إستثنائية فكان له ما أراد ، وجلسوا جميعا حول ما ئدة الشراب وقد اطمأنت قلوبهم لقيادة الأله الشاب.
اعطى الآلهة مردوخ قوة تقرير المصائر بدلا من أنشار وأعطوه قوة الككلمة الخالقة ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة أتوا بثوب وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب ، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى.
هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
فأقاموا له عرشا يليق بألوهيته وأعلوه سيدا عليهم جميعا ثم أسلموه الطريق إلى تعامة، وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوسا وجعبة وسهاما وهراوة كما صنع شبكة هائلة ، أمر الرياح الأربعة أن تمسك أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق وأرسل البرق أمامه يشق له الطريق دفع أمامه الأعاصير العاتية وأطلق طوفان المياه وانقض طائرا بعربته الإلهية وهي العاصفة الرهيبة التي لا تصد منطلقا نحو تعامة والآلهة تدافع من حوله تشهد مشهدا عجيبا.
عندما إلتقى الجمعان طلب مردوخ قتالا منفردا مع تعامة فوافقت عليه ودخل الإثنان حالا في صراع مميت وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولة على الرياح ، وعندما فتحت فمها لإلتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت وامتنع عليها الحراك . وهنا أطلق الرب من سهامه واحدا تغلغل في حشاها وشطر قلبها . وعندما تهاوت على الأرض اجهز على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره وهنا تمزق جيش تعامة شر تمزيق وفر معظمه يطلب نجاة لنفسه ، ولكن مردوخ طارهم فقتل من قتل وأسر من أسر.
بعد هذا الإنتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولية الأولى إلى حالة النظام والترتيب ، حالة الحركة والفعالية و....الحضارة .
عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها ثم أمسك بها وشقها شقين ، رفع النصف الأول فصار سماء وسوى النصف الثاني فصار أرضا، ثم إلتفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق فخلق النجوم محطات راحة للآلهة وصنع الشمس والقمر وحدد لهما مساريهما ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كينغو حيث قتله وأفرج عن بقية الأسرى بعد أن إعترفوا بأن المحرض الأول هو كنغو كما خلق الحيوان والنبات ونظم الآلهة في فريقين الأول في السماء وهم (الأنوناكي) والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم ( الأيجيجي)
بعد الإنتهاء من عملية الخلق يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيدا للكون.بنوا مدينة عي بابل، ورفوا له في وسطها معبدا تناطح ذروته السحاب وهو معبد(الازاجيلا) وفي الإحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.
هذه هي الخطوط العريضة للملحمة البابلية الكبيرة عرضتها في عجالة لا تغني عن النص الشعري الكامل الذي يعتبر مع ملحمة جلجامش أجمل نصين من نصوص الأدب السامي ومن أجمل نتاجات الأدب القديم.
اعتمدت الترجمة بشكل أساسي على نص السيد (اليكسندرهيديل)الصادر في كتابه(the Babylanian Genesis) ونص السيد (سبيسر)المنشور في كتاب ( Ancient Near Eastern ****s) وفي بعض المواضع على نص (غريسون) وتم الاسترشاد بترجمة (كينج) وترجمة (سلانجدون) فجاء النص العربي معبرا عن أهم الإتجاهات القائمة في ترجمة هذا النص العظيم.
و هنا ترجمة لأول عشرة أسطر من كل لوح من الألواح السبعة:
((((( الللوح الأول ))))))
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض
لم يكن (من الآلهة)سوى آبسو أبوهم
وممو ، وتعامة التي حملت بهم جميعا.
يمزجون أمواههم معا.
قبل أن تظهر المراعي وتتشكل سبخات القصب
قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون
قبل أن تمنح لهم أسماؤهم وترسم أقدارهم
في ذلك الزمن خلق الآلهة (الثلاثة) في أعماقهم
لخمو و لخامو ومنح لهما اسميهما
.
.
.
.
(((( اللوح الثاني ))))
بعد أن أعدت تعامة عدتها
تهيأت لبدء الصراع مع ذريتها من الآلهة
اعدت كل شيء انتقاما لآبسو
ولكن استعداداتها وصلت لايا
فلما أحاط بالمسألة علما
اقعده الخوف وجلس في حزن عميق
وبعد أن قلب الأمر وسكنت ثائرته
مضى إلى جده أنشار
فلما صار في حضرة جده أنشار
أفضى إليه بكل ما تخطط له تعامة
.
.
.
.
(((( اللوح الثالث ))))
فتح انشار فمه
متحدثا إلى وزيره كاكا:
"كاكا يا وزيري الذي يفرح به قلبي
سأرسلك إلى لخمو ولخامو
فأنت واسع الإدراك مجيد الحديث
ادع آبائي الآلهة للحضور إلي
وليأت جميع الآلهة
فيجلس الجميع إلى مأدبتي ونتحدث
سنأكمل خبزا ونشرب خمرا
وإلى مردوخ المنتقم فليسلموا مقاديرهم
.
.
.
.
(((( اللوح الرابع ))))
أقاموا له منصة عرش ربانية
واتخذ مكانة قبالة آبائه لتلقي السيادة:
"أنت الأعظم شأنا بين الآلهة الكبرى
لا يدانيك أحد وأمرك من أمر آنو
ومن الآن فأمرك نافذ لا يرد
أنت المعز وأنت المذل حين تشاء
كلمتك العليا وقولك لا يخيب
مامن إله يقارب حدودك
مساكن الآلهة تستصرخ الحماية
فزينها بحضورك تجد في كل مكان ركنا لك
.
.
.
.
(((( اللوح الخامس ))))
خلق محطات لكبار الآلهة (يستريحون بها)
أوجد لكل مثيله من النجوم
حدد السنة وقسم المناخات
ولكل من الإثني عشر شهرا أوجد ثلاثة أبراج
وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة
خلق كوكب المشتري ليضع الحدود
فلا يتعدى نطاق في السماء مكانه ولا يقصر عنه
وعلى جانبيه خلق محطتي انليل وايا
فتح بوابتين في كلا الجانبين
دعمهما باقفال قوية على اليمين وعلى الشمال
.
.
.
.
(((( اللوح السادس ))))
فلما انتهى مردوخ من سماع حديث الآلهة
حفزه قلبه لخلق مبدع
فاسر لايا بما يعتمل في نفسه
واطلعه على ما عقدج عليه العزم:
"سأخلق دماء وعظاما
منها سأشكل (لالو)وسيكون إسمه انسانا
نعم ، سوف أخلق لالو الإنسان
وسنفرض عليه خدمة الآلهة فيخلدون للراحة
ثم عمد إلى تنظيم أمور الآلهة
كلهم عظيم ،ولكنني سأجعلهم في فريقين"
.
.
.
.
(((( اللوح السابع ))))
اسارو، واهب الأرض الخصبة ، ومالي عنابر القمح،
منبت الحبوب والبقول ومحيي الأعشاب
اسار اليمنونا ، الجليل نور آبائه
الذي يوجه قرارات آنو وانليل وايا،
وحده القائم بأودهم ، الذي وقف لهم مساكنهم،
الذي أفاضت حربته صيدا وفيرا.
توتو بطل خلاصهم ونجاتهم هو،
فليطهر هياكلهم ويتركهم ينعمون،
ويجعل لهم تعاويذ ، تطمئن بهخا نفوسهم
فاذا اضطربوا انزل سكينة عليهم
.
.
.
.
....النهاية...
للتوثيق:فراس السواح،مغامرة العقل الأولى،دراسة في الأسطورة – سوريا وبلاد الرافدين، الطبعة13، عام 2002 ، دار علاء الدين ، دمشق،ص51-91.
منقول