منقول من موقع syria-news.com
لاحظت في الآونة الأخيرة أن موضوع العلمانية قد طُرح بشكلٍ
متواتر على هذا الموقع، وقد قاربه عددٌ من الإخوة القرّاء في مساهماتهم من وجهات
نظر مختلفة. لذلك وجدتُ أنّه قد يكون من المفيد مقاربة الموضوع من وجهة نظر خبرة
الكنيسة في أوروبا مع العلمانية، لعلّ في ذلك فائدة تُغني النقاش.
أبدأ الطرح من الناحية التاريخية، فكلمة علماني (Laïc)
أو علمانية (Laïcité) استُخدمت للمرة الأولى في الكنيسة
سنة 95 ميلادية مع البابا اكليمنضوس الاسكندري، الذي استعمل تعبير "الإنسان
العلماني" في معرض رسالته إلى أهل كورنتوس، مميزاً من خلاله بين من ينتمي إلى
الهيكلية الكنسية أي جماعة الأكليروس، والمؤمن الذي لا ينتمي إليها. وحتى القرن
الثالث الميلادي نجد أن استعمال هذه الكلمة قليل جداً، دون أن يمنع ذلك من التمييز
بين المؤمن الذي يحاول أن يعيش إيمانه في العالم، وذلك الذي انخرط في حياة روحية
خاصة داخل الكنيسة. مع مرسوم ميلانو سنة 313 الذي أصدره الامبراطور قسطنطين، والذي
صارت بموجبه المسيحية ديناً رسمياً للدولة، دخلت أعداد كبيرة من الناس في المسيحية
دون تحضير جيد لقبول الإيمان، وبالتالي بدأ التمييز بين الإكليروس (رجال الدين)
والرهبان الذين يعيشون حياة روحية خاصة، وبين المؤمنين العلمانيين الذين يعيشون في
العالم، وبدأت تظهر فكرة أن عيش المسيحية المثالية يجب أن يكون في البعد عن العالم.
في القرون الوسطى بدأ التمييز في أوروبا بين “Litteratus”
وهو الشخص الذي يعرف اللغة اللاتينية وبإمكانه الانضمام إلى سلك الإكليروس، وبين “Illetteratus”
وهو المؤمن البسيط الجاهل وغير المثقف، وصار التمييز واضحاً بين سلك الإكليروس
والرهبان وبين العلمانيين، حتى بات الإكليروس أولئك الذين يهتمون بالأمور الروحية،
والعلمانيون أولئك الذين يهتمون بالأمور المادية. وصار عيش الروحانية المسيحية
قائماً على الانفصال عن العالم والهروب منه لأنّه يمثل حضور الشرير الذي يُبعد عن
الله. ومع بدايات القرن الثامن بدأت تظهر عقلية رفض العلمانيين (Anti
laicale) ومثالاً على ذلك يكفي أن نقرأ للأسقف Roberto
Grosseteste لنفهم تلك العقلية. ولكن هذا لا يعني الانفصال
التام بين الحالة العلمانية وتلك الكنسية، حيث نجد مثلاً أن القديس فرنسيس الأسيزي
(القرن الثالث عشر) ورفاقه كانوا من العلمانيين، حتى إنهم أسسوا الرهبانية الثالثة
للعلمانيين.
في العصر الحديث أخذت الأمور بالتطور، فمن الاكتشافات
الجغرافية إلى العلوم الإنسانية والأخلاقية...إلخ وهذا ما جعل الإنسان يفكر أكثر
بنفسه وبالعالم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن توما الأكويني كان قد بدأ بتوضيح بعض
الأمور بين الوحي والعلم طارحاً مبدأ عدم التناقض بينهما. ولكن هذا لم يمنع
العلمانيين الذين بدؤوا يفكرون بطريقة علمية وعقلية من الابتعاد رويداً رويداً عن
الكنيسة مؤسسين لعالمٍ يتناقض مع فكر الكنيسة في كثير من الأمور. ومما زاد الأمور
تعقيداً هو ظهور الإصلاح البروتستانتي الذي رفض الفصل بين الإكليروس والرهبان من
جهة، وبين العلمانيين من جهة أخرى مشدداً على أن كل المسيحيين مشاركون في كهنوت
المسيح. فأتى المجمع التريدنتيني ليفند الأفكار البروتستانتية، ويعيد الاعتبار إلى
العلمانيين في الكنيسة، فكانت النتيجة تنشيط الحركة الفكرية والثقافية التي تجلت في
أبهى صورها من خلال الفن المقدّس ونذكر هنا على سبيل المثال مايكل آنجلو، ورافاييلو
في القرن السادس عشر، وأيضاً بعض العلماء المؤمنين أمثال غاليليو وبليز باسكال
وأنطونيو موراتوري.
وفي عصر الأنوار، ومع تزايد تعظيم العقل والخبرة
الإنسانية الأرضية، نشأت مقولة "ضد المسيحية" “anti christianisme”،
متهمةُ الكنيسة بتجهيل الناس وإبعادهم عن الفكر. وهكذا بدأ الانفصال الكبير بين
السلطة الكنسية والعلمانيين يشق طريقه للوجود، ليُتوَّج بالثورة الفرنسية الكُبرى
سنة 1789، والتي كانت موجهة ضد السلطة المدنية والكنسية ورجال الإكليروس، ومن ثم
الثورة الأوروبية سنة 1848، وبدأت تظهر الكثير من الحركات العلمانية المؤمنة
لتُظهِرَ نمطاً جديداً من حياة اٌيمان، ولكنها كانت تصطدم بعقلية الإكليروس التي
بقيت متأثرة بالقرون الوسطى.
من ثم بدأت الأصوات تتعالى في داخل الكنيسة لإيجاد
فكر جديد يجمع الخطين تحت جناح الإيمان. وتجدر الإشارة هنا إلى اسمين كبيرين في هذا
المجال وهما: Antonio Rosmini و J.H Newman.
بعدها بدأ البابوات يفكرون جدياً بهذه المشكلة، فبدأ الفكر الجديد يشع في الكنيسة
مع حبرية البابا بيوس الثاني عشر (1939- 1958)، ومع لاهوتيين كبار أمثال الذي نشر سنة 1953 كتاباً بعنوان “Jalons
pour une théologie de laicat” أي "نحو لاهوت علماني" والذي
شدد فيه على أن للعلماني دور جوهري في بناء العالم وكتابة التاريخ، فالعلماني هو
الإنسان المؤمن الذي يعيش حالته العلمانية كحقيقة ليست ثانوية أو منفصلة عن الحالة
الدينية، وإنما كحقيقة أساسية مرتبطة مباشرةًَ مع إرادة الله في الخلق. كما يجدر
الإشارة إلى لاهوتي آخر وهو “Karl Rahner” الذي أكّد في
كتابه “l’apostolato dei laici” "رسولية العلمانيين" على
أنّه في الكنيسة لا يوجد، ولا يجب أن يكون، أي علماني. فالعلماني هو بكل بساطة عضو
في شعب الله، وهو مسيحي مكرّس في قلب العالم.
Yves Congar
بعد هذا التطور الملموس أتى المجمع الفاتيكاني
الثاني، الذي أنهى أعماله سنة 1965، ليظهر الكرامة الكبيرة التي يتمتع به كل
إنسان، مهما كان إيمانه، وليوضّح دور المؤمنين في قلب العالم كشهود للمحبة والخير
والسلام (راجع وثيقة الدستور الرعوي الكنيسة في عالم اليوم). ليأتي بعدها البابا
يوحنا بولس الثاني واضعاً هذه الأفكار عملياً على الأرض، مشدداً على دور العلماني
في الكنيسة والمجتمع.
ما أردتُ قوله من خلال هذه العجالة التاريخية هو أن
الحالة العلمانية التي تعيشها أوروبا اليوم لم تكن وليدة أيام أو شهور، بل سنين
وقرون، تطور فيها الفكر واللاهوت والعلوم حتى وصل إلى ما وصل إليه. ولم أتطرق إلى
حالات علمانية أخرى كالتي نشأت في بريطانيا والتي لم تعتمد يوماً التناقض بين الدين
والسياسة، فنجد أن الملك هو رأس الكنيسة في انكلترا. ولا الحالة العلمانية في
أميركا التي تضع على عملتها الوطنية “In God we trust”،
وذلك نظراً لضيق المساحة. كما أنني لم أتطرق إلى الخبرة الروسية بعد الشيوعية بين
الكنيسة الأورثوذكسية والسلطة السياسية. وطبعاً لا بد من التشديد على أن الحالة
العلمانية التي يعيشها جزءٌ من أوروبا ليست هي الحالة المثلى، وهذا ما دعا الرئيس
الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى طرح فكرة "العلمانية الإيجابية" التي تقوم على دعوة
المؤسسات الفرنسية إلى التصالح مع الشعور الديني وعدم الاصطدام به، والتأكيد على
أنه ليس بمقدور العلمانية اقتلاع فرنسا من جذورها الدينية المسيحية، وهذه العلمانية
تجمع وتحاور وتحترم، دون أن تستبعد أو تنقض. وهذا ما شدد عليه البابا بندكتوس
السادس عشر في كلمته أمام الرئيس الفرنسي قائلاً: "في هذا المنعطف التاريخي حيث
تتلاقى الثقافات أكثر فأكثر، لدي قناعة عميقة بأنه بات أمرًا ضروريًا التفكير
مجددًا بالمعنى الحق للعلمانية وبأهميتها. من الضروري التشديد على التمايز بين
السياسة والدين لضمان حرية المواطنين الدينية ومسؤولية الدول تجاههم من جهة، ومن
جهة أخرى، من الضروري التوصل إلى وعي أوضح للدور الذي لا بديل عنه الذي يلعبه الدين
في تنشئة الضمائر وللإسهام الذي تقدمه، مع عناصر أخرى، في خلق إجماع خلقي أساسي في
المجتمع".
ختاماً أود أن أقول، أنّه إذا كان لا بد لنا يوماً أن
نصل إلى حالة علمانية في بلادنا، فيجب أن تقوم على خبرتنا الطويلة في التعايش
والانفتاح على بعضنا البعض، والاستفادة من كل الخبرات الثقافية والحضارية والروحية
التي طبعت تاريخنا، حتى نؤسس لمجتمع صحي مبني على الاحترام والمحبة والأخلاق
الإنسانية التي تجمعنا جميعاً تحت كنفها.
وكما تصالحت أوروبا مع الفكر العلماني في الغرب،
علينا نحن في الشرق أن نتصالح مع هذا الفكر العلماني الشرقي وخاصة الغنوصي وغيره
لكي يولد الإزدهار والتقدم، ولا ننسى بأن أفكار أغلب الأحزاب في منطقة الشرق الأوسط
كانت أفكاراٌ علمانية لم تناقض الدين وإنما طالبت بفصل الدين عن الدولة وهذا يساعد
كثيرًا لعدم استغلال الدين وبنفس الوقت يطوّر المجتمع ويعطي مجال للفكر الحر.
فكلمة علماني بالنهاية لا تعني بالضرورة رافض الدين
وإنما الشخص غير المكّرس والذي يعطي حرية للعقل بعيدًا عن التأثير الديني ويمكن أن
يكون أيضًا مؤمن وملتزم بقضايا وطنه.
المراجع:
-Une théologie du laïcat : L'apport du père Yves
Congar, Bulletin de littérature ecclésiastique ISSN 0007-4322 , Institut
catholique de Toulouse, Toulouse, FRANCE (1952).
- Gaudenzio Zambon, Laicato e tipologie ecclesiale,
Roma 1996.
منير شفيق، ساركوزي والعلمانية الإيجابية، في موقع التجديد
العربي.